آثار تمويل المصارف الإسلامية في الدورة الاقتصادية
تساهم البنوك التقليدية بدور أساسي في تمويل المشروعات الخاصة والعامة، واستثمار أموال المودعين في مجالات ونشاطات إنتاجية لا تقوم الدورة الاقتصادية بدونها، لكن المتخصصين في العمل المصرفي الإسلامي يعتبرون أن البنوك التقليدية التي تعتمد على التسليف وتحقّق عوائدها من الفائدة، إنما تزيد الوضع الاقتصادي سوءا، وتقيد حركة الاستثمارات في القطاعات الاقتصادية المختلفة. ويقوم المصرف الإسلامي بخلاف ذلك، بدور فاعل ومساهم في الحياة الاقتصادية وتنشيط الدورة الإنتاجية.
إن واقع العمل في المصارف الإسلامية يتجاوز الثغرات التمويلية التي تؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج، ومن ثم الأسعار التي يدفعها المستهلكون ثمنا للسلعة. علاوة على ذلك، يساهم المصرف الاسلامي في زيادة الإنتاج المباشر للسلع والخدمات، وتراكم الأصول المادية المنتجة، وتنمية طبقة جديدة من رجال الأعمال المنتجين، ورفع مستوى الدخل والمعيشة للعاملين. بل إن التمويل المصرفي الإسلامي يؤدي إلى توزيعٍ صحيح للموارد المالية المتاحة للاستثمار بشكل عادل بين المتمولين وبين القطاعات الاقتصادية المختلفة، وهذا بدوره يخفف العبء عن الدولة في توفير الدعم والتمويل.
قد يبدو هذا الاستنتاج مبكرا ومبالغا فيه، ولكن التفسير والتفصيل سيكشِف صحة هذا التوجه وحجم تأثيره، فيما لو تم اعتماده على صعيد القطاع المصرفي ككل، وعلى صعيد الاقتصاد الوطني بشكل جامع. فقد أصبحت المصارف الإسلاميّة في عصرنا الحاضر تحوز على اهتمام عربي وعالمي واسع أدّى إلى خروج العمل المصرفي الإسلامي من حيز “الفكر الديني” إلى الاحتراف المصرفي المبني على التوجيه الشّرعي الإسلامي.
وجدير بالذكر أن المصارف الإسلاميّة تتعرّض إلى نفس المخاطِر التي تتعرّض لها البنوك التقليدية بما فيها مخاطر الائتمان، وهي بدون شكّ، أكثر شدّة ومداهمة لها بسبب أساليب التمويل المغايرة. وقد تتّبع المصارف الإسلامية نفس أساليب الضمانات لتغطية هذه المخاطر، فهي بكلّ تأكيد مصارف تجاريّة يدفعها حافز تحقيق الأرباح إلى بذل المجهود المطلوب للفوز بتمويل أكثر المشاريع ربحيّةً.
وتأتي الربحية في الأولوية العليا للمصارف الإسلامية لسبب منطقي بارز وهو أنها مؤسسات مالية تعمل بدافع الربح كغيرها من المؤسسات، ولكنها تخضع لمخاطر السوق. فالمصارف الإسلامية لا تتقاضى فائدة، بل عند التمويل برأس المال، تشارك في ربح المشروع المتحقق في نهاية الدورة التشغيلية والمالية. فإذا لم يُنتج المشروع ربحا، لم يحصل المصرف الإسلامي الشريك على حصته من الإيرادات. وهذا يعني أن المصرف الإسلامي، بالإضافة إلى مخاطر الإئتمان، يتعرض إلى مخاطر السوق والعمل: المنافسة، طلب السوق، خطة الإنتاج، تكاليف الإنتاج، خطة التسويق، الإدارة، وكل مخاطر النشاطات التي تدخل في إنتاج السلعة وصولا إلى بيعها واستلام قيمتها. ويمكن التحرز من مخاطر الإئتمان من خلال الضمانات، غير أنه لا مجال لتخطي مخاطر السوق والعمل لأنها تتعامل مع عنصرين أساسيين: عدم التأكد، والتغير.
وعليه، فإن المصرف الإسلامي يستحق الربح لأنه يتحمل مخاطر العمل مع عميله، خاصة في عمليات التمويل برأس المال. وهنا تبرز أهمية معادلة العلاقة المباشرة بين المخاطرة واستحقاق الربح في المعيار الاقتصادي، وتطابقها مع القاعدة الشرعيّة “الخراج بالضمان”.
إن التوجه في الاستثمار في الأصول المُنتجة للمصارف الإسلامية بموجب دراسات جدوى مدققة من خلال عقود المشاركة، و المضاربة، والإجارة، والمرابحة، على اختلاف أنواعها وفروعها، يعني الدخول في تمويل المشروعات من خلال التملك ثم البيع أو التأجير، أو المشاركات في المشروعات الإنتاجية، وهنا تكمن القيمة المضافة الاقتصادية الحقيقية لذلك الاستثمار. و السبب المباشر يكمن في وجود زيادة في إنتاج السلع والخدمات، أو تراكم الأصول المادية المنتجة مقابل كل تمويل من المصرف الإسلامي.
وفي هذا السياق، فإن المصرف الإسلامي لا يدفع إلى عميله قيمة التسهيلات المصرفية المتفق عليها نقدا، بل يقوم بنفسه باستيراد السلع وشراء الأراضي والعقارات والمعدات والآلات والسّلع والمنتجات والأصول الثابتة على أنواعها، ولا يسلّم العميل نقداً إلاّ فيما نَدَر من العقود، وحتّى في هذه الحالة يكون التمويل النقدي مقابل أصول ماديّة أو إنتاجيّة أو تكاليف أجور أو إنتاج.
ولو استعرضنا تعريف التضخّم بأبسط أشكاله، يتبين لنا أنه زيادة في السيولة النقديّة لا يرافقها زيادة في الأصول الإنتاجيّة أو السلع والخدمات، ممّا يؤدّي إلى الزيادة في الأسعار. فأصحاب الكتلة النقديّة والسيولة يتنافسون على كميّة محدودة من السّلع والخدمات ممّا يعني استعدادهم لدفع سعر أعلى للحصول على السّلعة. وهذا ما لا يحصل عند التمويل بالعقود الإسلاميّة لأنها لا تؤدّي إلى زيادة في السيولة في السوق، بل إلى زيادة في الأصول والقدرة الإنتاجيّة وكميّة السّلع والخدمات المنتَجة؛ بمعنى أنّه ليس هناك تضخّم بسبب هذا التمويل من المصارف الإسلاميّة، بل هي قيمة اقتصاديّة مُضافة عالية جدّاً.
وهذا التوجّه يحوّل المجتمع تدريجيا إلى مجتمع منتِج بدلاً من كونه مجتمعا استهلاكيا، ويساهم في إعادة تشكيل وهيكلة الاقتصاد بسبب تنويع الاستثمارات ويلغي تشوّهات التركيز على قطاع اقتصادي واحد فقط مثل القطاع المالي أو القطاع السياحي أو القطاع العقاري. كما ينشّط ذلك الحركة في مختلف القطاعات الإنتاجيّة والاقتصادية ممّا يؤدّي إلى زيادة الناتج القومي، وزيادة الإنتاجيّة بدورها تؤدي إلى الزيادة في الطلب على اليد العاملة وإتاحة الفرص للباحثين عن عمل. ومن هنا تبدأ الدورة الاقتصادية في التّسارع من خلال الطّلب على المواد الأوليّة واليد العاملة، والسّلع والخدمات، فترتفع كفاءة الإنتاج وتنخفض تكاليفه في ظلّ غياب أهم التكاليف وهي تكاليف التمويل المتمثلة في الفائدة، ويزداد دخل الأفراد العاملين والناتج المحلّي.
ولا شكّ أن المصارف الإسلامية جزء وحلقة من نظام مالي مترابط في ظل النظام الأخلاقي والقيم الإسلامية، و ليست مجرد منشآت أو مؤسسات مالية قائمة باستقلالية بحد ذاتها. فإن تحقيق الأرباح و زيادة ثروات المصارف الإسلامية و عملائها و المستثمرين فيها, ينتج عنه مكاسب اقتصادية ناتجة عن العمل المصرفي الإسلامي لا تنحصر في المصارف والمتعاملين معها، بل تفيض إلى المجتمع بكل أطيافه من عملاء ومساهمين ومستهلكين وموظفين وحتى الفقراء خارج نطاق العمل والإنتاج, فالاستفادة تعم المجتمع كله.
*المراجع الشرعي الداخلي في بنك نزوى
الوطن