التمويل الإسلامي: تحليل أخلاقي للواقع بيع العينة والتورق نموذجا
بعد أن اتضحت أهمية النظام المالي في مسألة توزيع الموارد وتخصيصها والدور الحيوي الذي يلعبه في استقرار أي اقتصاد ونموه، باتت عملية إعادة هيكلة النظام المالي وفق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية الإسلامية أمراً بالغ الأهمية لتحقيق الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي المنشود في المجتمعات المسلمة.
وقد حدا هذا الأمر بالمسلمين إلى إرساء دعائم صناعة الخدمات المالية الإسلامية التي كان هدفها منذ البداية أن تتميز عن الأنظمة الأخرى التقليدية من خلال تطبيق المبادئ والأهداف والقيم الإسلامية. ومع ظهور صناعة الخدمات المالية الإسلامية والتطور الذي لحق بها خلال العقود الثلاثة الأخيرة ثارت بعض المخاوف والانتقادات من جانب العلماء المسلمين والأكاديميين والعاملين في حقل الخدمات المالية.
وقد أشادوا بتجربة صناعة الخدمات المالية الإسلامية كنموذج مختلف عن النظام التقليدي المعروف أو النمط المعتاد في الأعمال. وفي هذا الصدد تلقي المقالة التي بين أيدينا الضوء على هذه القضية في محاولة للإجابة على تساؤل مهم يتعلق بمدى اختلاف التمويل الإسلامي وتميزه عن النظام التقليدي أم أنه اختلاف في المسمى فقط؟. وفي سبيل ذلك تحاول هذه المقالة دراسة السياق الذي ظهرت فيه صناعة الخدمات المالية الإسلامية ومدى الاختلاف بين التمويل التقليدي والإسلامي، وتلقي الضوء على الوساطة المالية في كلا الصناعتين علاوة على نماذج عملية وممارسات حقيقية في حقل التمويل الإسلامي. وبهذا توظف المقالة تحليلاً ثلاثياً للموضوع من حيث البواعث والشخصية أو طبيعة الفعل نفسه ونتائج الأفعال أو الممارسات.
وتتبنى هذه المقالة وجهة نظر ترى أن التأكيد على نظام التمويل الخالي من الفائدة والقائم على الأصول يجرّد التمويل الإسلامي من معناه ويحوّل الأنظار إلى البحث في مدى مشروعية المعاملات. ومع ذلك تذهب هذه المقالة إلى أن السلوك البشري المنضبط بالقيم الإسلامية والمتفق مع المقاصد الشرعية من شأنه أن يقدم لنا نظاماً عالمياً مختلفاً بالكلية، تنخفض فيه مستويات التفاوت في معدلات النمو والثروة والدخل، ويكون أقل ضرراً على البيئة، ويجلب السعادة الحقيقية للبشرية.
بين التمويل الإسلامي والتقليدي: تحليل مقارن
على الرغم من طرح التمويل الإسلامي كبديل لنظام التمويل التقليدي، إلا أنه أخفق إلى الآن في أن يلقي بظلال الشك على النظام التقليدي [النظام الرأسمالي العالمي] من حيث جوهره وأهدافه ومعظم نتائجه. وبدلاً من إثارة الشكوك حول الافتراضات الاقتصادية التقليدية ونقدها ومعارضتها وتقديم بديل لها تكون له الهيمنة والغلبة، نجده قد تكيف مع النظام التقليدي وأضفى عليه المشروعية من خلال الإقرار بغلبته وهيمنته. وسوف نتعرض في هذا الجزء من المقالة إلى تلك الفرضيات الاقتصادية التقليدية عبر فلسفة الفاعلية الإنسانية وأهدافها.
السلوك الإنساني
في ظل النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة والتمويل التقليدي، نجد أن الرشد الاقتصادي والمنفعة الذاتية هما المحفزان الأساسيان للسلوك البشري. ويُفترض أن الأفراد من ذوي الرشد والاهتمام بالمنفعة الذاتية (الإنسان الاقتصادي ’ homo oeconomicus ’) يسعون إلى تحقيق رغباتهم وأهدافهم الخاصة المحددة سلفاً بأقصى قدر ممكن وبأقل تكلفة متاحة. وبالتالي فإن عامل العرض والطلب في السوق، متأثرٌ بالطبيعة الإنسانية التي تسعى وراء مصلحتها الشخصية، ويعد كافياً لمعالجة المشكلات الاقتصادية. ومع ذلك، فإن قوى السوق قد أخفقت بشكل واضح في تحقيق التوازن بين النمو العادل والتوزيع ليس فقط داخل نطاق الدولة الواحدة وإنما بين الدول ككل.
وهذا يدعونا إلى التساؤل حول مدى وجود فرق حقيقي بين سلوك الفرد الاقتصادي وبين سلوك المسلم باعتباره محكوماً بالقيم والأهداف والمبادئ الإسلامية. لا شك أن هذا الاختلاف سيُنظر له على أنه أحد الفوارق الأساسية بين التمويل التقليدي والتمويل المنضبط بالأهداف والقيم الإسلامية. ومع ذلك فليس الهدف هنا إقامة الحجة والبرهان الجوهري على أن الإنسان الاقتصادي أو السلوك الاقتصادي للمسلم هو أمر موجود بحكم الطبيعة والفطرة. وإنما هذا من صنع البشر من خلال المؤسسات والتقنيات والأدوات التي يطورونها خلال مشوار الحياة ونتيجة التفكير في طريقة العيش. لذا يُعتقد أن هذا السلوك أو ذاك يمكن أن يظهر للوجود عبر صياغة مجموعة معينة من القواعد والآليات والأدوات. وعليه فإن النماذج والصيغ والعقود والمنتجات المستخدمة في التمويل (الإسلامي أو التقليدي) ليست أوصافاً لازمة للعالم وإنما هي في حقيقة أمرها وسائل لإخراج عالم ما (والبشر الذين يحيون فيه) للوجود.
تجدر الإشارة إلى أن التمويل الإسلامي ظهر للوجود ضمن المنظومة المالية الرأسمالية أو العالمية. ثم سعى النظام الرأسمالي وراء أهداف خاصة به، وبالتالي تبنى تطوير الأدوات والوسائل والآليات التي تحقق له أهدافه تلك. وفي ظل هذه الظروف يمكن أن يُنظر إلى عملية وضع نظام للتمويل الإسلامي على أنها محاولة يائسة من المسلمين للبحث عن وسائل تحقق لهم الحفاظ على أصالة مزعومة في مجتمع تمسك فيه أطراف أخرى بخيوط اللعبة وتضع قواعدها وتستفيد فيه مساحات الجدل الواسعة من أي شيء عدا المصادر الإسلامية.
“إن الغرب هو من يحدد مساحة الجدل. […] ويقع هذا الجدل ضمن إطار ثقافي واحد: هو الإطار الغربي”. ومقتضى هذا الكلام أن الحديث عن التمويل الإسلامي يقع ضمن الحقل المعرفي المهيمن، أي في إطار نظرة عالمية وجزء من التاريخ مشترك بين جميع فروع المعرفة يفرض على كل طرف نفس القواعد والفرضيات، مرحلة عامة من إعمال المنطق والعقل، هيكل محدد للتفكير لا يمكن أن يتفاداه أبناء زمن ما – نص تشريعي رائع كتبته يد غير معروفة”. وبسبب هذا الحقل المعرفي، لا يمكن للمهتمين بالهندسة المالية الإسلامية أن يفكروا خارج إطاره، وبالتالي فإن الأدوات – المنتجات المالية – التي يتوصلون إليها تشبه إلى حد كبير جداً، إن لم تكن هي نفسها، الأدوات التقليدية المعهودة حتى وإن اكتست ثوباً إسلامياً. وبهذا يكون التمويل الإسلامي نتاجاً للتكوين العام للمعرفة والتقنية والبنية التحتية، ويوجهه الحقل المعرفي المهيمن. خلاصة القول أن التمويل الإسلامي هو منتج من منتجات العصر الحديث تماماً مثلما هو الحال مع التمويل التقليدي الذي هو نتاج للحداثة.
والأهم هو أن المهندسين الماليين قد تبنوا بكل سهولة ويسر المنهج الحديث القائم على اختراع أنظمة ومنشآت اجتماعية، هي في حقيقتها مجردات مأخوذة من الواقع، وأضفوا عليها كما هو الحال مع النظام المالي أهدافاً من عندهم قد تتجاوز الأهداف التي ينشدها الإنسان، وقد تُحقق تلك الأهداف على حساب الأهداف والغايات التي أرادها الله للبشرية. ويمكن تصور هذا التضارب بين أهداف مُنشأ اجتماعي ما وبين أهداف الإنسان من خلال النظر إلى هذا الانفصال بين الدولة القومية وحقوق الإنسان أو في حالتنا هذه بين صلاحية النظام المالي وقدرته على الاستمرار وبين رفاهية الإنسان. وعلاوة على ذلك، ولضمان صلاحية مثل هذا المُنشأ الاجتماعي المضمن في واقعنا الحالي، يسعى علماء الدين والخبراء الماليين إلى تبني لغة “الضرورة” أو “الحاجة”.
وهو مسلك يدل ضمناً على أن النموذج المعرفي المهيمن يضطرهم إلى إصدار أحكام وفتاوى تتيح للمسلمين التكيف مع النظام التقليدي القائم. ومن هذا مبدأ المصلحة المرسلة المستقلة عن النصوص. وتستند تلك الأحكام إلى قاعدة الحاجة أو الضرورة، فإن حاجة المرء، لا حاجة المُنشأ الاجتماعي، هي الأساس الذي تعتمد عليه عملية استنباط تلك القواعد الجديدة والأحكام. ومع أن العالم يسير باتجاه النموذج الذي يتركز حول الإنسان، إلا أننا بحاجة إلى النموذج المتركز حول الإله، حيث يكون محور حياتنا كلها طاعة الله.
النتائج الاقتصادية الاجتماعية
إذا كنا سنحترم المفهوم الإسلامي للموت والحياة وخير البشرية والمصلحة العامة علاوة على مفاهيم تنمية الأفراد والحرية والرفاهية والتضامن والأخوة الإنسانية، فمن الأهمية بمكان أن نفكر ملياً في نماذج التنمية والنمو المقدمة للمجتمعات المعاصرة. يتمثل الهدف الأساسي للسياسة الاقتصادية منذ ازدهار حركة التصنيع في دعم النمو في إطار السعي نحو تحقيق التنمية والسعادة البشرية.
وبسبب ازدياد حالة التفاوت وعدم المساواة لوحظ أن النمو وحده ليس مؤشراً كافياً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. فعلى الرغم من النمو الذي تحقق في أنحاء كثيرة من العالم، لا زال هناك كثير من الناس يعانون الحرمان وسوء المعاملة نتيجة غياب الضوابط التي تحكم قوى السوق. “وقد أثبتت نظرية التسرب نحو الأسفل”Trickle–down Theory ” ونماذج النمو بمعدل ثابت أنها تعزز من حالة التفاوت في توزيع الأصول عبر تمكين المجموعات القوية والثرية من النمو بمعدل أسرع مما كانت عليه من قبل لتترك الجموع الغفيرة في شقاء أكبر وبؤس شديد”. وبالتالي فإن النمو الاقتصادي في ظل الليبرالية الجديدة لا يخدم الجميع، وإنما يرسّخ الفقر ليدور في دائرة مفرغة وتبعية ممقوتة.
ونظراً لأن النمو في إجمالي الناتج المحلي هو المؤشر الأساسي لنمو الدول، فإن جميع الأنشطة الاقتصادية تتجمع حول الزيادة في الإنتاج والاستهلاك. وبالتالي يُفترض بالهندسة المالية أن توجد المنتجات والأدوات التي تضخ المزيد من المال في الاقتصاد حتى يلبي الاحتياجات المتزايدة في الإنتاج والاستهلاك.
ومع ذلك فإن التقدم الاقتصادي منذ انطلاق الثورة الصناعية، وما تبعه من إنتاج واستهلاك متزايدين، قد تسبب في العديد من المشكلات البيئية الخطيرة مثل تلوث الماء والهواء، وفقدان الغطاء الحرجي وتآكل التربة والتغير المناخي والاحتباس الحراري وتدمير المواطن الطبيعية وانخفاض الموارد الطبيعية، وتدمير التنوع الحيوي، والانفجار السكاني، وغيرها من المشكلات. وهذا كله يشكل قناعة لدى المرء أن نماذج الإنتاج والاستهلاك تلك لن تدوم لوقت طويل، وأن هناك حاجة ماسة لإعادة النظر في نماذج التنمية كبديل من شأنه أن يعزز من نمو بني الإنسان ويرسي العدل ويمنع الاستغلال ويلبي احتياجات الناس الأساسية. إن اكتناز الأموال والممارسات المسرفة والمتخبطة كلها أمور مذمومة.
ولا شك أن “المبدأ المدعوم بالمنفعة الشخصية وحدها باعتبارها قيمة أساسية دنيوية يتعارض بشكل مباشر مع قيمة التوسط والاعتدال الإسلامية التي تسعى إلى توفير ضروريات الحياة علاوة على بعض الكماليات ووسائل الراحة بهدف الحد من صعوبات الحياة والتغلب على مشاقها”. ونظراً لأن نماذج الإنتاج والاستهلاك الحالية تعكس تلك الممارسات المسرفة التي يرفضها الإسلام، فهناك اقتراح يرى ضرورة اقتصار نظام التمويل الإسلامي على تقديم التمويل اللازم لسد الاحتياجات الحقيقية للاقتصاد، وأن ينحاز إلى نماذج الإنتاج والاستهلاك التي تتسم بالتوسط والاعتدال. فإن تحقق لنا ذلك، فإن الممارسات المالية لن تترك الأجيال الحالية وأجيال المستقبل فريسة للديون الثقيلة ولا مهددة بندرة الموارد.
بين الوساطة المالية الإسلامية والتقليدية
إن صناعة الوساطة المالية والخدمات المصرفية – ونقل الأموال من يد المدخرين إلى المستثمرين، هي صناعة جديدة على الشريعة الإسلامية. ويُعتقد أن الوساطة المالية هي الطريقة الأكثر فعالية للادخار والاستثمار، لأنها تقلل من التكاليف التي تنفق في الحصول على المعلومات الخاصة بالمدخرين والمستثمرين، وبالتالي فهي في وضع يسمح لها بحل المشكلات الناجمة عن عدم اتساق المعلومات. ويحاول العلماء والعاملون في حقل التمويل الإسلامي إيجاد منتجات متوافقة مع الشريعة تتيح للمصارف الإسلامية إدارة المدخرات واستغلالها وتوزيعها بلا فوائد. إلا أن الكيفية التي يتم بها توزيع هذه الموارد المستغلة لها مقتضيات مباشرة على اختيار الصيغة المناسبة للوساطة المالية في البنوك الإسلامية، فهل تتبنى البنوك نموذج الوسيط المصمم على غرار البنوك التجارية التقليدية أم نموذج الشركة الاستثمارية التي تقدم خدماتها للأفراد الباحثين عن الأرباح وتنمية المجتمع في نفس الوقت. وبناء على هذا، نجد في هذا السياق وجهتي نظر متعارضتين حول هيكلة الصيرفة الإسلامية وأهدافها، وتعرفان باسم نموذج شابرا وإسماعيل.
(أ) نموذج شابرا أو نموذج الصيرفة الشاملة
ترى وجهة النظر هذه أن أسلوب التمويل من خلال المشاركة في الخسائر والأرباح هو الطريقة الأنسب، وتؤكد بشكل كبير على أهمية مسؤوليات الرفاهية الاجتماعية والالتزامات الدينية في البنوك الإسلامية. ويرى أنصار وجهة النظر هذه أن البنوك الإسلامية يمكنها أن تسهم في تحقيق الأهداف الاقتصادية الإسلامية إذا استطاع النظام المالي أن يحقق شرطين، أولهما: اقتسام المخاطرة من جانب الممول بحيث لا يتحمل المضارب (المقاول) عبء الخسارة كاملاً؛ وثانيهما: التوزيع العادل لعوائد الودائع المقدمة من قطاع واسع من الناس على قطاع كبير مماثل من الناس.
وعلى الرغم من أن العقود المالية القائمة على الأصول والمنشئة للديون (مثل المرابحة والسلم) ليست مرفوضة في حد ذاتها، إلا أنه لا ينبغي التوسع في استخدامها بسبب القروض الاستهلاكية الهائلة التي قد تنجم عن هذه العقود. وفي الوقت ذاته يرى أنصار هذه الرؤية أن طرق التمويل التي تعتمد على الملكية والمشاركة في الأرباح والخسائر أكثر تماشياً وتحقيقاً للأهداف الاقتصادية والاجتماعية التي ينشدها الدين الإسلامي. وبالتالي ستحل أساليب التمويل المعتمدة على المشاركة في الأرباح والخسائر محل الوساطة المالية المعتمدة على الفوائد، وهو الأمر الذي من شأنه أن يعزز ويدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة أو متناهية الصغر، لأن متطلبات الإقراض المضمون والجدارة الائتمانية تضمن سلامة المشروع الممول وقابليته للاستمرار. وفي هذا الصدد، تعزز هذه الرؤية الصيرفة الشاملة كنموذج للوساطة المالية الإسلامية.
(ب) نموذج إسماعيل أو نموذج الصيرفة التجارية
في نسخة أخرى من الصيرفة الإسلامية يرى البعض أنه ينبغي للبنوك الإسلامية أن تمارس عملها كبنوك تجارية عادية وتسعى لزيادة أرباحها إلى أقصى حد ممكن طالما كان ذلك في نطاق الشريعة الإسلامية ولم يشذّ عنها. ويؤكد أنصار هذه الرؤية على أهمية وسائل التمويل المنشئة للديون، “ويرون أن المغالاة في التأكيد على وسائل التمويل القائمة على المشاركة في الخسائر والأرباح أمر غير مناسب ولا أساس له في النصوص القرآنية، بل إنه يتعارض مع منهجية الشريعة”. وعلاوة على ذلك، يرى البعض أن البنوك الإسلامية تتحمل المسؤولية أمام المساهمين والمودعين فقط، ولا ينبغي تحميلها أعباء أخرى فوق طاقتها من مسؤوليات اقتصادية واجتماعية قد تكون في الواقع من اختصاص الحكومة. وهناك اعتقاد أنه في المستقبل القريب أو حتى البعيد سيثبت لدينا أن البنوك الإسلامية التي تضطلع بسلسلة كبيرة من الأنشطة الاجتماعية هي بنوك غير عملية وليس لديها فرصة للنجاح.
وهذه الرؤية التي تقترح على البنوك الإسلامية تبنّي النموذج التجاري للخدمات المصرفية تشبه إلى حد ما وجهة النظر العالمية الكلاسيكية الجديدة التي ترى أن الأفراد الذي يسعون وراء مصالحهم الخاصة إنما يخدمون المجتمع في حقيقة الأمر، وأن جميع الأطراف مستفيدة. وتتبنى هذه الرؤية المنطق الذي يرى أن الغرض من العمل هو العمل فقط، ومعنى هذا أن رفع الربحية إلى الحد الأقصى هو الهدف المشروع والأساسي لأي مؤسسة تجارية طالما أنها تلتزم بقواعد اللعبة المحددة.
نماذج عملية من الاقتصاد الإسلامي
على الرغم من تأكيد عدد من العلماء على تفضيل أساليب التمويل بالمشاركة في الخسائر والأرباح والمبنية على الملكية على طرق التمويل المبنية على الأصول والمنشئة للديون، فإن البنوك الإسلامية قد لجأت إلى الاستخدام المفرط للأساليب الأخيرة مثلما هو الحال في عقود المرابحة والإجارة والسلم والاستصناع. وكان من مقتضيات هذا الاستخدام المفرط لهذه الأساليب غرس ثقافة الاستهلاك، والعيش بشكل يفوق الموارد والإمكانات، والإفراط في الاستهلاك مقترناً بفرط الإنتاج وبالتالي الإضرار بالبيئة من خلال استنزاف مواردها بشكل لا يمكن تداركه.
ومع ذلك فلن يتناول هذا المقال أساليب التمويل المبنية على المشاركة في الأرباح والخسائر ولا المبنية على الأصول والمنشئة للديون، وإنما سيتعرض للمنتجات المالية الملتبسة مثل بيع العينة والتورق. “ويمكن تقييم نجاحها أو إخفاقها على أساس مدى محافظة تلك العقود الجديدة على الخصائص الأساسية المتضمنة في تحريم الربا ومراعاة مقاصد التحريم”. وبعد دراسة هذه الممارسات المالية، نصل إلى نتيجة مفادها أن تلك الممارسات ما هي إلا مجرد تغيير في المسميات فقط.
(1) بيع العينة
يشتمل عقد بيع العينة عادة على بيع سلعة ما من شخص لآخر بسعر حال نقداً ثم يبيع الشخص الثاني نفس السلعة في الحال للبائع الأول نسيئة بثمن أكبر. ولا يستخدم أي من طرفي العقد السلعة لا للاستهلاك ولا المنفعة. ويرى العلماء أن هذا النوع من المنتجات المالية ما هو إلا حيلة للربا إذ إن حقيقة بيع العينة اتفاق طرفين اجتمعت إرادتهما على دفع زيادة متفق عليها نظير قرض.
“حتى وإن لم يكن بيع العينة قرضاً، فإنه يشبه القرض حيث يتجاهل الطرفان الغرض الحقيقي لبيع السلعة المقصودة”. وفي عقد البيع، لا بد أن تنتقل المنفعة إلى المشتري من العين المشتراة: سواء كانت سلعاً استهلاكية مقصودة للاستهلاك أو تاجراً يشتري سلعة ليبيعها فيما بعد بهدف تحقيق الربح. لكن الأمر في بيع العينة على خلاف ذلك إذ إن شرط المنفعة لا يتحقق من جانب طرفي العقد. والعين في هذا العقد هي مجرد حيلة يتوصل بها إلى الربح من المبلغ المُقرض: وليست منفعة العين مقصودة لذاتها لأي من الطرفين.
وإلى جانب عدم الالتزام بالشروط الشرعية، فإن لهذا العقد مجموعة من العواقب الوخيمة، إذ ينطوي بيع العينة على العديد من المقتضيات الاقتصادية الخطيرة تماماً مثلما هو الحال في القروض والضغوط الائتمانية. وإذا كان البنك يمر بأزمة مالية، فإن الطرف الذي يتخلف في السداد في بيع العينة سيواجه نفس التبعات التي يواجهها من يتخلفون عن سداد القروض، كما أن الديون المعدومة تستنزف رأس المال.
ويذهب جمهور العلماء إلى تحريم بيع العينة على الرغم من انتشاره في ماليزيا وبروناي.
ويُعتقد أن التوسع في استخدام بيع العينة سيتحول بالنظام المالي الإسلامي إلى ثقافة التمويل بالاقتراض. وعلاوة على ذلك، فإن بيع العينة يعزز مصالح الأغنياء والشركات الكبرى بينما لا يساعد المبتدئين والشركات الصغرى التي لا يكون لديها القدر الكافي من الأصول أو الضمانات التي تدعم طلبها للحصول على التمويل. وبالنظر إلى طبيعة بيع العينة المذكورة أعلاه، يتبين لنا أنه يناسب تماماً الاقتصاد الليبرالي الجديد المهيمن، بل أصبح واحداً من أدواته المبتكرة في غزو الأسواق الجديدة.
(2) التورق
التورق أحد وسائل التمويل التي تهدف إلى توفير النقد أو التمويل الشخصي للعميل. وكما هو الحال في بيع العينة، فإن التورق يتضمن دخول بعض السلع أو الأصول بين عملية إعطاء النقد للعميل ثم سداد مبلغ أكبر من المال في المستقبل. والفرق بين التورق والعينة هو أن المعاملة الثانية التي تتم في التورق تكون بين العميل وطرف ثالث غير البائع. ولأن التورق يقتضي وجود بنك يكون وكيلاً عن العميل، فإن تكلفة التمويل تزداد لوجود عمولات نظير الوساطة في عملية البيع والشراء. ولا تكون السلعة مقصودة لذاتها كما في بيع العينة وإنما حيلة لتفادي التحريم. لذا فإن هذه الممارسة تجرّد التمويل من عملية المقايضة والتبادل الحقيقي وتفصلها عن سوق الإنتاج، لأنه على الرغم من شراء السلع وبيعها، إلا أنها ليست مقصودة لذاتها في هذه العملية، وتعود إلى السوق دون أن يتم تنبيه المنتجين لاستبدالها وإنتاج غيرها.
ويرى جمهور العلماء أن التورق معاملة غير جائزة لتضمنها فائدة ربوية مخفية؛ وإذا نظرنا إلى أدائها الاقتصادي، ندرك جيداً أنها تعارض الغايات والأهداف الاقتصادية والاجتماعية الإسلامية، وبالتالي ليست معاملة مستحبة. ولا يختلف الدور الاقتصادي للتورق عن الإقراض والاستدانة. فإن هذا النظام الذي يتم فيه مبادلة مال بمال أكثر فيه من الظلم والإجحاف ما فيه، علاوة على ما يتضمنه من عدم الاستقرار. “وإذا تناولنا الأمر من منظور الاقتصاد الكلي، فإن وضع البنوك الإسلامية التي تتعامل بالتورق هو نفس وضع البنوك التقليدية التي تمنح قروضاً (ربوية) لعملائها، علاوة على أنها تفتقر إلى القدرة على امتصاص الصدمات التي تكون ضرورية في حال العمليات المبنية على المضاربة والمشاركة في الأرباح.
وفي ظل هذا الظلم وعدم الاستقرار، فإن أي نظام يقوم على التورق هو بلا شك نظام غير فعال. وكما هو الحال في التمويل بالقروض الربوية، لا يكون هناك أي تكامل بين قطاع السلع الحقيقية والخدمات وبين القطاع المالي. وليس هناك ثمة أصول حقيقية تقابل القرض بفائدة، وكذلك لا توجد أصول حقيقية تقابل التزام الدين الناجم عن العملية الأولى من المعاملات الثلاث المتممة لصفقة التورق. وبالتالي، فإن جزءاً مفرداً من أحد الأصول الحقيقية يمكنه أن يشكّل أساساً لمجموعة من صفقات التورق المتتابعة التي لا حصر لها، مما يؤدي إلى تضخم سوق النقد عبر عمليات وهمية.
أفيقة هيداروفا.
مركز دراسات التشريع الإسلامي