الطريق إلى البنك الإسلامي..
سرني جدا تفاعل الإخوة القراء مع مقالي السابق في هذا الركن، حول تجربة البنوك الإسلامية، وسرني أكثر تفهم القراء للمشكلة وتساؤلاتهم المتنوعة، وتفاعلهم وانفعالهم، ابتداء ممن ثمن المقال وأثنى عليه، وانتهاء بمن اتهمني بالتلبيس ودعاني إلى عرض الحلول، فقد سررت بهم جميعا وبمقولاتهم.
وسروري بذلك مرده إلى شعوري، من خلال ما قرأت من تعليقات على الموضوع، بأن نخبنا اليوم تجاوزت في عمومها السطحيات العاطفية والتبريرات الشهوانية، وأصبحت في مستوى أكثر تفهم لقضايا العالم، وأشد تقدير لطاقاتنا الكامنة التي يحتاجها العالم، وينتظرها من الثقافات الشرقية عموما، ومن ثقافتنا الإسلامية خصوصا.
وإلى جانب سروري هذا، اعتذر للإخوان الذين طالبوني بالحل؛ لأن الحل لا يكون بمقال في صحيفة او موقع، وإنما يتطلب بناء برنامج تحرري على مستوى الأفكار والبرامج والممارسات، ونظام تربوي شامل للإنسان، الذي استعبدت النظم الدولية الحاكمة اليوم قيمه من الحياة، فأنسته طبيعته البشرية بأبعادها الوظيفية في شؤونه كلها، فلا يمكن ان نقنع شخصا بإمكانية بديل للبنوك التي اعتادها، التقليدية الربوية والإسلامية، لأنه لا يتصور غيرها، ومن ثم فلا يتصور بديلا إلا عندما تهتز ثقته في التجارب الموجودة التي ألفها، ومقالي ذاك يصب في هذا المصب وهو أن التجربة الإسلامية الحالية في البنوك، كشفت للرأسمالي عن صيغ في الربح أنفع وأجدى من الصيغ الربوية، أكثر مما خدمت الإنسان في بعده الاجتماعي، ثم إن التملص من هيمنة المشكلة الربوية الرأسمالية المتوحشة، التي تحكمها منظومة متكاملة، وتحميها دول وشركات كبرى، ليس من السهولة معالجتها بعيدا عن أهل التخصص في الكثير من المجالات، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
تصوروا معي عالم نصف ثروته بأكملهها بيد 85 شخصية في العالم، وهناك بنوك في العالم مهمتها “المساهمة في إسقاط الدول وإنقاذها”، وهناك وكالات تأمين تابعة لبنوك، مهمتها المساهمة في إشعال الحروب، وهناك بنوك تخصصها التقاط مشاريع الإعمار إثر الحروب في العالم.
إن هذه المهام القذرة التي تتم نسبتها إلى هذا البنك أو ذاك، وتقاسم الأدوار بينها وبين المؤسسات الأمنية والسياسية في العالم ليست معلنة، وإنما تستنتج من العلاقات بين الدول والمؤسسات الأمنية والمالية.
ومع ذلك يمكننا لفت الانتباه إلى مفاصل في الموضوع، لا نتصور حلا للقضية المالية في العالم إن لم تؤخذ بعين الاعتبار، وهي في مستوى من الاختلال، لا يمكن تخطيه أو تجاوزه، ومن ثم لا حديث عن تغيير هذا الواقع، إن لم نتفهمها جيدا.
أولا: أن المنظومة الدولية اليوم، المالية وغيرها، تسير في اتجاه محو الطبقة الوسطى في المجتمعات، بحيث لا يبقى في المجتمعات إلا طبقتين اثنتين، طبقة السادة: الأغنياء أرباب الأموال وملاك والمصانع والثروات، والمنتجون لجميع مستهلكات الإنسان، وطبقة العبيد: المستهلكين لكل منتج ينتجه السادة.
ووظيفة كل منهما، أن السادة ينتجون المستهلكات، بل لا يقف إنتاجهم عند هذا الحد، وإنما ينتجون الحاجة للاستهلاك، أي عندما ينتجون شيئا غير قابل للاستهلاك، تتحرك آلة الدعاية لتوجد لذلك المنتوج المرغوب عنه مستهلكين له، اما العبيد فلا دور لهم إلا الاستهلاك..، والمؤسسات المالية جميعها يخدم هذا التوجه.
ثانيا: ان المؤسسات المالية الإسلامية وغير الإسلامية، لا تخدم إلا الأغنياء، وهي وظيفة النظام البنكي كما أراده واضعوه، بسبب ما تفرضه من ضمانات يعجز عنها الفقير، ولذلك قلنا في المقال المشار إليه آنفا “البنوك الإسلامية والبنوك الحلال”، ان المبادرة الإسلامية في الصيرفة لم تخرج في بعدها الاجتماعي عن أهداف البنك الربوي، إلا في الجانب الشكلي وهو العقد، فبدلا من العقد الربوي الذي تُسيَّر به البنوك الربوية، وضعت صيغة العقود الإسلامية، (المرابحة، المضاربة، السلم، المزارعة..)، وذلك بسبب تغييب الخدمة الاجتماعية للمال.
ثالثا: غياب نظام التوازن الاقتصادي التكاملي بين الدول الضعيفة، والتحكم الدولي في البورصة، وفرض مرجعية عملة التعامل.. الدولار اليورو والين. فرفع وانخفاض سعر البترول مثلا تتحكم فيه الحروب والصراعات الدولية، لا سيما في الشرق الأوسط. فارتفاع سعر البترول في الجزائر مثلا ينعشها، ولكنه يكون وبالا على بلد مثل المغرب الذي لا يملك هذا المنتوج، وعندما ينخفض سعر البترول، لا شك أن الجزائر تتضرر بسبب ذلك بينما المغرب ينتعش؛ لأنه سنعش ميزانيته ويفتح له أبوابا لتحريك عجلة الاستثمار، “مصائب قوم عند قوم فوائد”، والمرجع في هذا السعر وذاك هو الدولار، الذي قد تكون قيمته في كلتا الحالتين وبالا عليهما معا؛ لن قيمته الحقيقية لا يعرفها إلا صاحب القرار الأمريكية.
فلو افترضنا أن المغرب والجزائر مثلا وضعا خطة لاقتصاد تكاملي بين الدولتين، في إطار اتحاد المغرب العربي، بفرض المقايضة بين الدولتين في جميع ما تنتج الدولتان، فإن النتيجة هي الاستغناء عن النقد أصلا، وتحجيم التدخل الأجنبي في المصالح بين الدولتين بشكل كبير، وقل مثل ذلك في سائر الدول الإسلامية، كدول الخليج مع مصر وتركيا في إطار التعاون الإسلامي، مثلا او غيرها.
هذه الصور الثلاث في تقديري لا يحسن إغفالها عندما نفكر في أي مشروع يخلصنا من المنظومة الرأسمالية الربوية، لإعادة المال إلى وظيفته الاجتماعية التي من أجلها كانت النقود، التي كانت ذهبا وفضة وتحولت إلى أوراق مربوطة الحبل السري بمؤسسات مالية وسياسية وأمنية أخرى اكبر وأكثر تحكما.
وفي هذا الإطار التحرري ذي البعد الاجتماعي، يمكن اعتبار تجربة “بنك غرامين للفقراء” التي أطلقها في بنغلاديش أستاذ الاقتصاد الدكتور محمد يونس سنة 1976، وهي تجربة قلب فيها صاحبها المنظومة البنكية رأسا على عقب، بحيث أعاد للنقد قيمته الوظيفية الاجتماعية، ورغم أنني لا أدري هل اعتمد في قروضه التي يقدمها للمتعاملين معه العقود الربوية أم غيرها، إلا أن منهجيته اعتمدت تقديم الخدمة الاجتماعية على حساب النظام البنكي التقليدي. فقد اعتمد تقديم الأفقر على الفقير والفقير على الغني في منحه القروض للمتعاملين، فألغى الضمانات على القروض التي يقدمها، كما اعتمد استهداف الأسرة تحديدا بالقروض، وتقديم النساء على الرجال بوصفهن ربات بيوت.
فالذي لا يملك شيئا أولى بالقرض من الذي يملك؛ بل إن البنك رسم سياسة لاستقطاب المتسولين، للقضاء على هذه الآفة، وتحويلهم من متسولين إلى منتجين، فقام البنك بتجربة مع متسولين، حيث عرض عليهم بضائع بقيمة 10 إلى 12 دولار لكل متسول، لبيعها أثناء تجولهم وهم يتسولون، من غير أن يحثهم على ترك التسول، فكانت النتيجة كما يقول صاحب التجربة محمد يونس، أن المتسول انطلق من اعتبار التجارة مهنة إضافية، بحيث بقي يتسول وفي نفس الوقت يتاجر، ولكنه مع مر الأيام ترك التسول وتحول إلى تاجر يبيع ويشتري.
ومن سياسة البنك أيضا تقديم النساء على غيرهن، خاصة في القروض الأسرية، التي تستهدف استثمار الأسرة لخبرتها في جميع المجالات، فعلى سبيل المثال وفر البنك في إحدى مبادراته الموجهة إلى الأسر، ثمانية آلاف مغزل يدوي حديث، لتشغيل عشرة آلاف أسرة، في إنتاج الخيط، صوفي أو قطني مثلا..
إن سياسة بنك الفقراء بسيطة جدا وميسورة جدا وفعالة جدا، فطالب القرض يمكنه الحصول على القرض بأسرع وقت ممكن، وفق اتفاق -رزنامة- مع البنك في التسديد، بحيث يستلم المتعامل القرض وينطلق في مشروعه ابتداء من الأسبوع الأول الذي يتلقى فيه القرض، بمتابعة عون من البنك. وأعوان البنك هم أيضا محكومون بتنظيم إداري منضبط ومحكم، يتلقون هم بدورهم مشجعات، تبلغ الـ10 بالمائة من الأرباح كحوافز.
ومن بين إنجازات البنك الخارجة عن منطق المنظومة البنكية التقليدية –الربوية والإسلامية- أنه “عندما أصيبت بنغلاديش بفيضان عام 1998 بقي فيه الناس تحت الماء مدة شهرين ونصف تقريبا، وفقدوا ممتلكاتهم ومنازلهم، قرر بنك غرامين القيام ببرنامج ضخم لإعادة تأهيل الأسر، بتوزيع قروض جديدة لمشاريع مربحة، بصيغ أكثر سهولة ويسر، حيث تم إلغاء بعض الشروط التي يضعها البنك عادة، كالعضوية والادخار والتسديد الأسبوعي، ويكون الاتصال بالأسرة واقتراح المشاريع المربحة عليهم، وذلك بعد معرفة إمكاناتهم وقدراتهم على الحركة بعد تأهيلهم النفسي وصناعة الاستعداد المبدئي لديهم.
بنك الفقراء اليوم يوجد في 71 ألف قرية في بنغلاديش، بثمانية ملاين متعامل أغلبهم من النساء، القروض تسدد بنسبة 99 بالمائة، هذا على المستوى المحلي، أما على المستوى الدولي، فهناك علاقات للبنك مع اليونسكو في إطار ترقية التعليم والاستثمار فيه بما يخدم الفقراء دائما، وله علاقات أيضا مع 113 منظمة في 34 دولة بآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا.
هذه تجربة بسيطة وفعالة، ومرغوب عنها في الأوساط المالية الدولية؛ لأنها مضادة للإرادة الحاكمة في العالم، ورغم أهميتها لم تنل من الشهرة ما نالته التجربة الإسلامية، رغم أنها من حيث المبدأ تعتبر أنجح من تجربة البنوك الإسلامية، التي كرست –في تقديري كمتابع- المفهوم الرأسمالي للمال، وشرَّعت لاستبعاده العملي من الخدمة الاجتماعية، ومن ثم وقعنا –كمسلمين- في التناقض، ففي الوقت الذي ندعو فيه الناس إلى أداء فريضة الزكاة إغناء للناس عن السؤال، نكشف للبنوك الربوية عن العقود الشرعية التي تزيدهم غنى عن غناهم، على حساب الفقير الذي لا يجد طريقا للبنك، لا بالعقد المشروع ولا بغير المشروع، ليبقى المال دولة بين الأغنياء من البشر.
وتجربة بنك الفقراء هذه كما ذكرت آنفا، لا أدري ماذا اعتمد فيها صاحبها، هل اعتمد التعامل التقليدي للبنوك –أي العقود الربوية- أم أنه اعتمد عقود الشركات كما هي في الفقه الإسلامي؟ ومهما يكن من الأمر، فإن جوهر التجربة يتماشى وغايات المنظومة الإسلامية، وإذا كان بها نقائص في الجانب الشكلي يمكن تداركها.
وتبني العالم الإسلامي مثل هذه التجربة، أظنه الآن هو الوقت المناسب له، فالأزمات التي تمر بها الأمة، ومنها على وجه التحديد، الجزائر والسعودية، الدولتان الأبعد عن الأزمات وانعكاساتها السياسية والاجتماعية، قد فرضت عليهما الأزمة تقشفا لم تسمع به الجزائر من قبل ولا السعودية، بحيث بدات السعودية بتفكر في فرض الضرائب على مواطنيها، أما بالنسبة لباقي العالم الإسلامي فحدث.. ثم حدث.. ثم حدث ولا تتردد.
الشروق
[box type=”shadow” align=”aligncenter” class=”” width=””]مقالات ذات صلة :
■ البنوك الإسلامية في المغرب العربي: الواقع و التحديات.
■ العوامل التي ساعدت على نجاح تجربة البنوك الإسلامية.
■ مشكلة التمويل لدى المصارف الإسلامية.
■ الفرق بين البنوك الإسلامية و البنوك التقليدية.[/box]