العوامل التي ساعدت على نجاح تجربة البنوك الإسلامية
إن السرعة التي نمت بها تجربة البنوك الإسلامية, وترعرعت وانتشرت، ما كانت لتتم لولا الحماسة الهائلة التي استقبلت به التجربة من سواد الشعوب المسلمة في البلاد التي بدأت فيها التجربة. وقد تمثل هذا الإقبال وتلك المساندة في الاستجابة عند طرح الأسهم وفي إيداع المدخرات، رغم مخاطر التجربة واحتمالات الخسارة، والإقبال على التعامل مع تلك البنوك، وأيضا رغم احتمالات الخسارة، وعلى الرغم من عدم وضوح الرؤية ووجود الصعوبات الإدارية والقانونية المختلفة، وعدم تفهُّم الصيغ التي طرحتها تلك المؤسسات للتعامل، ورغم مخاطر المشاركة في الأسرار التجارية والمالية التي كان البعض يظنها ستكون عاملا أساسيا في الحيلولة بين فئة رجال الأعمال وبين التعامل مع البنوك الإسلامية.
فماذا تعني هذه الظاهرة:
إن المعنى الظاهر هو أن العقيدة أو الروح الإسلامية الكامنة في الشعوب الإسلامية قابلة – إذا ما حركت الأهداف النبيلة وبوسائل شرعية – لتحقيق منجزات كبيرة في مختلف المجالات، وليس فقط في مجال إذكاء الحماسة السياسية أو الجماهيرية.
وعلى الذين يبحثون في إيجاد إستراتيجيات للتنمية للشعوب الإسلامية – أن يضعوا هذه الحقيقة الاجتماعية الهامة نُصب أعينهم وهم يقترحون النماذج الفنية للتنمية، فإذا لم تصادف هذه النماذج هوى في نفوس الشعوب، ولم تتجاوب معها – فذلك لأنها ولدت منذ البداية غريبة عن روح الشعوب الإسلامية، وعجزت بالتالي عن التفاعل لخلق «الإدارية» المطلوبة لتحقيق التطور أو التنمية، وعلى الاقتصاديين الإسلاميين – وهم يؤطِّرون للفكر الاقتصادي الإسلامي – أن يضعوه في منظوره الصحيح من الفكر الاجتماعي الثقافي العقدي الإسلامي.
البديل العملي والاقتصادي للربا:
إلى جانب الدعم الخلقي والعاطفي الذي وفره الشعور الإسلامي لنجاح التجربة، فإن نجاحها اقتصاديا وتجاريا كان سببا باهرا لتوسعها وانتشارها – ولو صادفها الفشل لا قدر الله في بداية عملها – لما شفعت لها أي كمية من المشاعر أو النوايا الحسنة في الاستمرار.
وقد نجحت التجربة لأنها استطاعت أن تقدم من خلال عدة صيغ استثمارية إسلامية لا تشوبها شائبة الربا تمويلا ناجحا للأطراف الثلاثة في المعادلة: المودع – المساهم – المستثمر – المجتمع، وأهم هذه الصيغ هي:
- صيغة المشاركة التقليدية، وصيغة المشاركة المتناقصة التي استعملتها البنوك إسلامية لتمويل مشاركات متوسطة وطويلة الأجل.
- صيغة بيع المرابحة للآمِر بالشراء.
- صيغة البيع لأجل.
- صيغة المضاربة بنوعيها المطلقة والمقيدة.
- صيغة التمويل بالقرض الحسن.
- صيغة الإيجار.
- صيغة الإيجار والاقتناء.
الصيغتان الأخيرتان طورتهما بصفة أساسية الشركة الإسلامية للاستثمار ودار المال الإسلامي، وهناك صيغ يجري تطويرها الآن لاستيعاب الدخول في مجالات الزراعة والصناعة والخدمات، وهي صيغ المزارعة والاستصناع وبيع السلم.
وقد استخدمت أيضا صيغ شرعية لاستيعاب عدد كبير من الخدمات المصرفية العادية (غير التمويل)؛ منها: الحوالة والكفالة، والوديعة والقرض الحسن، فأمكن تقديم خدمة مصرفية كافية تشمل التمويل والخدمات، وعلى هذا يمكن القول بأن تجربة إنشاء البنوك الإسلامية قد نجحت في تقديم نظام بديل وعملي وناجح للعمل المصرفي على أسس إسلامية في وقت وجيز، ورغم العقبات المتمثلة في وجود بيئة فكرية اقتصادية وقانونية وإدارية مخالفة للأوضاع الإسلامية، وقد تم تحقيق هذا الإنجاز لثلاثة أسباب:
أولهما: الحماسة والإرادة المتوفرة على مختلف المستويات الشعبية والرسمية لإبراز الفكرة إلى حيز الوجود. و ثانيهما: وجود الأرضية الفكرية الأساسية المتمثلة في الأدب الشرعي في فقه البيوع والمعاملات، والذي استطاع – رغم فارق الزمن الهائل – أن يسعف التجربة بالأسس الشرعية اللازمة لبداية العمل، مما يثبت صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان. أما ثالثهما فكان إصدار بعض القوانين والإعفاءات ومنح بعض الإعفاءات والاستثناءات، لتمكين التجربة من العمل من خلال الأوضاع القائمة.
وقد سبق التحدث تفصيلا عن السبب الأول، ويجدر أن نتوقف قليلا عند السببين الثاني والثالث.
تجربة البنوك والبعث الفكري:
لقد ألزمت هذه المؤسسات الإسلامية نفسها طوعا واختيارا بنظام الاستشارة الشرعية، وهناك هيئة شرعية تذكر وتلزم دائما بالحدود الإسلامية والبنوك الإسلامية الآن في مرحلة «تأصيل»؛ أي استخراج النمط الشرعي وتطبيقه على الواقع، أو عرض الواقع عليه، وهي مرحلة تقليدية ذات نهج تقليدي في مراحل الاحتكاك بين النظرية والواقع، ولا ندعي الآن ظهور أفكار جديدة وهذا شيء طبيعي، ولكن نتوقع في خلال السنوات القادمة ظهور نتائج مبنية على الاحتكاك الواقعي، ولا يعني هذا عدم وجود اجتهادات، ولكنها في انتظار الاحتكاك الواقعي كي يعجم عودها، وقد كانت نتيجة هذا البعث الفكري الذي حركته التجربة العملية انتشار فكرة المعاملات الإسلامية حتى بين غير الإسلاميين، وقد كانت إلى عهد قريب تعبيرات – مثل «المشاركة» و«المضاربة»، و«المرابحة» والكفالة والحوالة – مجهولة ولا يعرفها إلا القلة المتخصصة التي أنعم الله عليها بهذا العلم، أما الآن فقد أصبحت هذه التعبيرات نارًا على علم حتى بين العامة، وفي المؤتمرات التي أُتيحت لي فرصة حضورها، أصبح الغربيون يتكلمون عن هذه المفاهيم كما يتكلم عنها الرجل العادي في الشارع وفي البنك.
وقد كان من نتائج هذا البعث الفكري أيضا تشجيع الاجتهاد، فمن خلال حركة البنوك الإسلامية بدأت في الأفق بوادر نهضة فكرية بدأت بالتأصيل – كما قلنا – ثم بدأت تظهر بعد ذلك بعض الاجتهادات الفكرية، ومصدر هذه الاجتهادات هو أن التجربة العملية بدأت تلفت النظر – ومن خلال الممارسة أو المقارنة – إلى أن الفكر الإسلامي يملك مقومات حلول أصيلة لبعض المشكلة الاقتصادية القائمة؛ كمشكلات محاربة التضخم الاقتصادي، وإيجاد إستراتيجيات مختلفة للتنمية، وسنعرض في وقت لاحق لبعض هذه الظواهر الفكرية.
وفي تقديري أن المرحلة القادمة ستشهد نشاطا فكريا يكون محور «الحلول الجديدة» التي كشفتها التجربة الإسلامي، وحين تتضح معالم كافية للحل الإسلامي للمعضلة الاقتصادية في عالم الواقع، يتوقع المرء أن تظهر بعد ذلك اجتهادات أصولية شاملة، يصح أن يطلق عليها تعبير «نظرية».
أ. عبد الرحيم محمود حمدي
من بحث منشور في المؤتمر الأول لجماعة الفكر والثقافة الإسلامية.
[box type=”shadow” align=”aligncenter” class=”” width=””]مفالات سابقة :
■ المصارف الإسلامية.. الفرق بينها وبين التقليدية.. خدماتها.. مفهومها.
■ مشكلة التمويل لدى المصارف الإسلامية.
■ المصارف الإسلامية و طبيعة عملها.
■ تجربة البنوك الإسلامية: في مرحلة الثبات [/box]