المغارسة
في ظل تداعيات أزمة الغداء العالمية و ما تلاها من أزمة إقتصادية و مالية، و بالنظر إلى الإرتفاع المستمر لواردات الدول العربية و الإسلامية من المنتجات الغذائية، فضلا عما تعانيه الأراضي الصالحة للزراعة فيهما من إهمال وتعرض لمختلف المخاطر كالتصحر والجفاف والانجراف, كان من اللازم البحث عن حلول ناجعة تتلاءم مع عاداتنا وتقاليدنا وقيم ديننا الإسلامي الحنيف, و من هنا كان التفكير في إعادة إعمار الأراضي البور وفق صيغة المغارسة.
و المغارسة هي إحدى الأعمال التي زاولها كثير من المسلمين قديما, و قد عرفها إبن رشد(الحفيد)كما يلي: “و هي عند مالك أن يعطي الرجل أرضه لرجل على أن يغرس فيها عددا من الثمار معلوما، فإذا إستُحق الثمر كان للغارس جزء من الأرض متفق عليه”.
فقد يكون لأحد الأشخاص أراض زراعية لكنه لا يستطيع زراعتها و القيام عليها و استثمارها لانشغاله أو لعدم قدرته ماليا, بينما يكون عند طرف آخر القدرة على العمل و لكنه لايملك الأرض الزراعية و لا الشجر, أو يكون إنسانا ذا قدرة مالية أو بنكا إسلاميا مستعدا للتمويل, حيث يتفق كل من الطرفين على سواء الفرد أو البنك الاسلامي مع مالك الأرض الزراعية على مغارستها بواسطة عقد يتفقون عليه فيما بينهم.
و تكون المغارسة عادة فيما له أصل ثابت من الشجر كالنخل و الفواكه و نحوها، و المراد بالأصول الثابتة هي التي يطول مكثها في الأرض كالنخيل و جميع أنواع الشجر، أما غير الثابتة هي التي لا يطول مكثها في الأرض كالزرع و البقول, فإن هذه لا تصلح المغارسة فيها، لأن بقاءها في الأرض لا يطول، فلا تصلح الشراكة فيها.
و المغارسة لا بد فيها من الشراكة في الأصول و الأرض معا دون غيرها. و تكون للعامل حصة معينة من الشجر و الأصول التي يغرسها في الأرض حسب الاتفاق بين الطرفين مثل الربع منها أو النصف أو غيرهما من الحصص، فإذا أثمرت الأصول التي غرسها الفلاح أو المستثمر ملك من ثمرها بتلك النسبة التي اتفق عليها فيكون له الربع أو النصف من الثمر.
و يمكن للطرفان إشتراط أن تكون للعامل حصة معينة و محددة من أصل الأرض نفسها، و من الأصول الموجودة في الأرض قبل المغارسة عليها بالإضافة إلى حصته من الأصول التي غرسها, و هذا على ما هو متعارف بين المسلمين في المغارسات التي تتم فيما بينهم.
و قد منع جمهور الفقهاء المغارسة، بينما أجازها المالكية و الظاهرية، و كذلك الإباضية. فاستدل الإمام إبن حزم الظاهري على مشروعية المغارسة بدليل مشروعية المزارعة. أما بالنسبة للمالكية فقد أجازوا المغارسة على أن يكون للغارس نصيب من الأرض والشجر والثمر. و اشترطوا لصحتها خمسة شروط :
- أن يغرس العامل في الأرض أشجارا ثابتة الأصول دون الزرع و المقاثي و البقول.
- أن تتفق أصناف الشجر أو تتقارب في مدة إطعامها (إثمارها)، فإن اختلفت اختلافا بينا لم يجز.
- ألا يكون أجلها إلى سنين كثيرة، فإن ضُرب لها أجل إلى ما فوق الإطعام لم يجز، وإن كان دون الإطعام جاز، و إن كان إلى الإطعام فقولان.
- أن يكون للعامل حقه من الأرض و الشجر، فإن كان له حظه من أحدهما خاصة لم يجز، إلا إن جعل له مع الشجر مواضعها على الأرض دون سائر الأرض.
- أن لا تكون المغارسة في أرض محبسة (موقوفة) لأن المغارسة كالبيع.
بالإضافة إلى الأدلة السابقة على صحة و جواز المغارسة، يمكن أن نضيف كذلك العرف، حيث جرى العرف في البلاد الإسلامية على تطبيق المزارعة بهذه الصورة, و هذا العرف لم يخالف نصا من الكتاب أو السنة فأصبح دليلا آخر على مشروعية المغارسة.
أما الحنفية فلم يقبلوها، و لكنهم صححوها إما بالإشتراك في الشجر و الثمر فقط دون الأرض، أو أن يبيع المالك نصف الأرض بنصف الغراس (الشجر)، و يستأجر رب الأرض العامل ثلاث سنين مثلا بشيء قليل ليعمل في نصيبه. كما أن المغارسة تصح عند الحنابلة إذا كان للعامل جزء معين من الثمرة فقط كالمساقاة. و أبطلها الشافعية لعدم الحاجة اليها.
و يجب أن تحدد المدة التي ينجز المغارس عمله خلالها، وهذا التحديد يكون:
- إما بمدة معينة: كأن يتفق على أن المغارس يعمل في الأرض خمسة أعوام أو أربع سنوات، و نحوها من المدة التي لا يطعم الشجر عادة قبلها.
- بلوغ الأشجار إلى علو معين: كأن يتفقا على أن المغارس لا يستحق شيئا إلا إذا بلغ علو الأشجار مترين أو غير ذلك مما لا يطعم الشجر عادة إلا إذا بلغها.
- بالإطعام: كأن يتفقا على أن المغارس لا يصبح شريكا بالجزء المعين إلا إذا نجح غرسه وأطعمت الأشجار التي غرسها و أثمرت ثمارها.
و يمكن أن تستخدم البنوك الاسلامية صيغة المغارسة في تمويل القطاع الفلاحي بإستخدام أحد الأساليب التالية:
أولا: المغارسة المشتركة
حيث تقوم البنوك الاسلامية بتملك الأراضي الصالحة للزراعة، ثم تقوم بعدها بالإتفاق مع المؤسسات الخبيرة في المجال الفلاحي المتعلق بغرس الأشجار المثمرة, و تضم هذه المؤسسات عادة مهندسين زراعيين متخرجين من المعاهد المتخصصة و ذو خبرة مهنية و علمية كبيرة في هذا المجال, فيقومون بإجراء دراسة معمقة عن إمكانية غرس الأشجار المثمرة و اللازمة و الملائمة لنوعية الأرض محل العقد، ليتم بعد ذلك الاتفاق بينهم وبين البنوك الاسلامية على أن يغرسوها و يكون لهم جزء من الأرض تُمَلكهم إياه و كذا جزءا من المحصول الذي ينتج من عملية الغرس إضافة على جزء من هذه الأشجار. بالتالي يكون نصيب البنوك الاسلامية الجزء الأكبر من الثمار و الأشجار والأرض, و ما تبقى فيصبح من نصيب المؤسسة الغارسة.
ثانيا: المغارسة المقرونة بالبيع والإجارة
حيث تقوم البنوك الاسلامية بامتلاك أرض صالحة للزراعة و تقوم ببيع جزء منها بسعر رمزي للمؤسسة شريطة أن تقرن البيع بعقد إجارة على العمل في الجزء الثاني من الأرض, و يكون الأجر عبارة عن جزء من الشجر و الثمر.
كما يمكن للمؤسسة المالية الاسلامية أيضا أن تقوم بدور العامل إذ تقوم بتعمير أراضي لأصحابها على سبيل المغارسة و ذلك باستخدام عمال أجراء توفر لهم البنوك الاسلامية التمويل اللازم، و بعد تملك البنوك الاسلامية لنصيب من الأراضي تطبق عليها المزارعة و المساقاة.
يمكن بالتالي الاستفادة من صيغة المغارسة في تعمير مساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة في الوطن العربي، و تطبيق المغارسة بالصيغة المبينة سابقا, و سن القوانين التي تنظمها خاصة في المناطق التي تنتشر فيها المذاهب المجيزة له بالصيغة المذكورة. و أكثر تلك المذاهب انتشارا المذهب المالكي، الذي تشاء الصدف أن تكون أكبر المساحات الصالحة للزراعة في الوطن العربي متواجدة في الدول التي يسود فيها هذا المذهب بشكل كبير خاصة بلدان المغرب العربي، حيث أن 44 % من تلك المساحات تضمها هذه البلدان.
لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن عدم سيادة المذهب الذي يطبق المغارسة بالصيغة السابقة ليس عائقا أمام تطبيقها. لكن أعراف المجتمع تكون عادة من العوامل المساعدة على نجاح التقنين من طرف الدولة. و يرى الباحثون أن يكون دور هذه الأخيرة هنا هو حصر الأراضي الصالحة للزراعة و التي بقيت بورا، ثم توزيعها على من يرغب في إعمارها خاصة من الشباب، مع توفير موارد المياه الكافية، و تحديد نوعية الأشجار المغروسة مع العاملين بالشكل المتفق عليه، و يمكن للدولة أن تدفع لهم نصيبها ليواصلوا عليه العمل بصيغة المساقاة.
و تكملة لدور الدولة في إعمار الأراضي بصيغة المغارسة، فإن من واجبها أيضا أن تسن مجموعة من القوانين الصارمة التي من شأنها أن تحافظ على تلك الأشجار المغروسة، وأن تمنع أي تحويل للأراضي التي تحتويها إلى أغراض أخرى كالبناء، و أن لا يكون عدم ملكيتها لتلك الأراضي عائقا أمام تطبيق تلك القوانين.
يتبين لنا مما سبق المزايا التي تتسم بها صيغة المغارسة، سواء من حيث كونها صيغة إسلامية يمكن أن تحول مساحات شاسعة من الأراضي البور سواء في البلدان العربية و الإسلامية إلى أراضي منتجة، أو من حيث أنها تشكل دافعا قويا للعامل في تلك الأراضي على العمل, لأنه يتحول بعد فترة من أجير إلى مالك, و هذا ما يكرس أيضا مدى الثراء والخصوبة اللذين يميزان الفقه الإسلامي الذي يوفر الحلول العملية والعادلة لجميع الأطراف في كل عملية اقتصادية.
و لا بد لنا من الإشارة الى أن صيغ التمويل الزراعي لا تقتصر فقط على المزارعة أو المساقاة أو المغارسة, بل العكس تماما فالقطاع الزراعي يمكنه الإستفادة في تمويله من العقود الأخرى كالسلم و الإستصناع و المشاركة و غيرها.
و على هذا فإن فإن القطاع الزراعي يحتاج من البنوك الاسلامية الى إعادة نظر ضمن الصيغ الشرعية, و إلى رؤية شاملة لا تعتمد فقط على أسلوب زراعة الأرض و سقي الأشجار فقط, و إنما تفتح الباب أيضا أمام التصنيع الزراعي و تسويق المنتجات الزراعية محليا و دوليا, فضلا عن توابع القطاع الزراعي من ثروة حيوانية و الدواجن و غير ذلك.