أسباب وآثار دخول الحيل الفقهية على المصرفية الإسلامية
تمهيد:
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه؛ فإن هذا المقال عن “أسباب وآثار دخول الحيل الفقهية على المصرفية الإسلامية” يأتي استكمالا لما تم الحديث عنه في المقال السابق الذي نشر في مجلة الاقتصاد الإسلامي العالمية؛ عدد فبراير لسنة 2013 م؛ والذي كان بعنوان: “أهم العوامل التي أدت لظهور الملاحظات على أعمال المصرفية الإسلامية”؛ حيث تمت الإشارة إلى حقيقة دخول شيء من فقه الحيل على أعمال المصرفية الإسلامية، و قبل الخوض في موضوع دخول الحيل على المصرفية الإسلامية أنبه إلى أن دخول منهج الحيل الفقهية لم يكن لدى جميع المصارف الإسلامية، ولم يكن كذلك في جميع الأوقات؛ فإن معظم من المصارف الإسلامية كانت تتخلص من أي معاملة فيها شبهة التحيّل حين يظهر لها ذلك.
وسأبدأ بذكر حقيقة الفرق بين المصرف الإسلامي والمصرف الربوي، وذلك ببيان المبادئ والأسس التي قام عليها كل منهما، إذ بضدها تتميز الأشياء.
أولا: الفرق بين المصرف الربوي والمصرف الإسلامي
حقيقة المصرف الربوي:
إن المصرف الربوي أو كما يُسمى “المصرف التجاري”؛ هو ذاك المصرف الذي تدور معاملاته على الفائدة. والحقيقة أن المصرف الربوي أُنشئ لأجل ذلك, فهو ابن الفائدة كما يُعبّر عنه! والفائدة هي ثمن لرأس المال يعود عليه مقابل إقراضه, فيحصل عليها رأس المال دون جهد أو مخاطرة.
وحقيقة عمل المصرف الربوي أنه يتاجر في القروض والديون، أو ممول بفائدة، فليس الاستثمار بشتى أنواعه؛ كالشراكات أو المتاجرة بالسلع من عمله إلا ما ندر، وأهم مبادئه البعد عن المخاطرة، لذا لا يدخل في المضاربة مثلا خوفا من الخسارة, وقد ذكرت بعض الإحصائيات أن تعامل المصرف الربوي بالاستثمار أو المتاجرة لا يتجاوز واحد بالمائة (1%) لدى بعض المصارف!.
حقيقة المصرف الإسلامي:
إن حقيقة المصرف الإسلامي مغايرة تماما للمصرف الربوي؛ فهو مصرف استثماري، أي يُنمّي أمواله بالاستثمار، فيستثمر في الشراكات بأنواعها وفي التجارة، وفي الخدمات المصرفية كالحوالة ونحوها. إن طبيعة التجارة والشراكات التي يقوم بها المصرف الإسلامي فيه شيء من المخاطرة ولاشك، لكن هذه المخاطرة من طبيعة التجارة الشرعية، وليست من قبيل المجازفات، وعلى ما سبق فإن أهم مبادئ المصرف الإسلامي يمكن تلخيصها في أمرين الأول: تركه للربا، والثاني: استثماره في التجارة والشراكات.
حقيقة الفرق بين المصرفين:
يظهر الفرق الحقيقي بينهما في كون المصرف الربوي تاجر في الأموال، والمصرف الإسلامي مستثمر في التجارة والشراكات، فالمصرف الإسلامي يتعرض للمخاطر الطبيعية الناتجة عن التجارة والشراكات، أما المصرف الربوي فهو تاجر ديون لا يتعرض لتلك المخاطر، ومما سبق ندرك أن أي تشبه من المصرف الإسلامي بأعمال المصرف الربوي يكون على حساب دوره الرئيس ومفهومه الأصلي كمستثمر وتاجر.
إن التوضيح السابق لحقيقة المصرفين مدخل هام للحديث عن دخول الحيل على المصارف الإسلامية، ونبدأ بالحديث عن مفهوم الحيل الفقهية والفرق بينها وبين المخارج الفقهية.
ثانيا: تعريف الحيل الفقهية والمخرج الفقهي
الحيل الفقهية تُعرّف بأنها: التوسل بمباح لتغيير حكم شرعي. أو أنها: قصد تغيير حكم شرعي بواسطة مباحة لم توضع لذلك الشيء. ومنهج الحيل في الإفتاء أو بناء صيغ التمويل يقصد به: تلك المعاملات التي تُبنى على مبدأ الحيل الفقهية. وحكم الحيل الفقهية المنع شرعا؛ وذلك لأدلة عديدة لا يسع المقام هنا لذكرها؛ ومن أشهرها الآيات الكريمة الواردة في قصة أهل السَّبت.
وخروجا من اللبس بين الحيل الفقهية والمخارج الفقهية؛ أذكر تعريفها والفرق بينها وبين الحيل الفقهية,
تعريف المخرج الفقهي: هو كل ما يتوصل به إلى التخلص من الحرام وتحصيل الحلال، دفعا للضرر وجلبا للمصلحة، مع موافقة المقاصد الشرعية.
الفرق بين الحيل الفقهية والمخارج الفقهية
إن الفرق بين الحيل الفقهية والمخارج الفقهية يتضح من التعريف السابق؛ فالمخارج لا يوجد فيها قصد تغيير الحكم الشرعي، ولا يوجد في المخارج مناقضة مقصود الشارع، بل هي متوافقة مع المقاصد الشرعية.
لذا فإن من أهم ما ينبغي النظر فيه عند الحكم على المعاملات المتعلقة بصيغ التمويل؛ التحقق من وجود الحيلة الفقهية في هذه المعاملة من عدمها، وهل هي من جنس الحيل الممنوعة أو من جنس المخارج الجائزة؟
ثالثا: سبب دخول فقه الحيل على المصارف
إن المصارف الإسلامية حين أرادت أن تجمع بين الفكر المصرفي الربوي والفكر المصرفي الإسلامي وذلك بأخذ أفضل ما في الاثنين مع قالب شرعي للمعاملة؛ فإنها لأجل الإبقاء على صورة المعاملة الشرعية قام بعض الباحثين بنهج مسلك الحيل الفقهية لبناء صيغ تمويل تلبي ذلك. لكن لماذا كان منهج الحيل الفقهية دون غيره؟ والجواب: بما أن المصرف الإسلامي ينبغي أن يكون تاجراً أو مستثمراً؛ لذا كانت الحيل الفقهية وسيلة لإظهار عمليات المتاجرة بالنقود بصورة المتاجرة بالسلع ! ويتم ذلك بمعاملات بيع صورية؛ يدرك العاقل أنها ليست بيوعا حقيقية !
تعريف الصورية:
الصورية في اللغة من الصورة، وهي: هيئة الشيء وصفته. وأما الصورية المتعلقة بموضوع الحيل الفقهية فنستطيع تعريفها بأنها: إخراج التصرف في صورة توافق الأمر الشرعي، مع مخالفته له في الحقيقة والباطن.
فالصورية من وسائل القيام بالحيل الفقهية. وبلا شك إن موضوع الصورية من المواضيع المهمة التي تستحق أن يُفرد له موضوع مستقل؛ لأن فهم الصورية يعين على كشف الحيل الممنوعة.
بداية دخول الحيل على المصارف الإسلامية
إن أول صيغة تمويل في المصارف الإسلامية جمعت بين المسلكين؛ أي التمويل المالي بصورة الاتجار كانت صيغة “المرابحة للآمر بالشراء مع الوعد الملزم”، وتُعدّ هذه الصيغة بداية التحول في مسيرة المصارف الإسلامية من كونها مستثمر إلى تاجر تُشابه أعماله التجارية المصارف الربوية المتاجرة بالأموال، ولقيت صيغة المرابحة للآمر بالشراء مع الوعد الملزم معارضة من بعض المهتمين بالمصرفية الإسلامية؛ لأنهم رأوا فيها بداية انحراف في عمل المصرف الإسلامي، وحذروا من أنها ستطغى على كل معاملات المصرف الإسلامي، فالصيغة جمعت في حقيقتها بين عمل التاجر وعمل المصرف لأول مرة! وواقع الأمر أن ما خُشي منه قد وقع فعلا، فتحولت مسيرة المصارف الإسلامية من مشاركات وتجارة إلى مداينات بصيغ مختلفة؛ معاملات ظاهرها التجارة لكنها تشبه في حقيقتها ما يقوم به المصرف الربوي.
رابعا: أثر الحيل الفقهية على المصارف الإسلامية
إن الحيل الفقهية أثرت على المصرفية الإسلامية من عدة زوايا:
1- من زاوية تأثيرها على غايات المصرفية الإسلامية:
يظهر جليا أن الحيل الفقهية حرفت المصرفية الإسلامية عن حقيقتها وغايتها؛ مع أن ظاهر الحال أن الحيل الفقهية وسعت وكثّرت الخدمات المقدمة؛ فقد بُنيت على الحيل صيغ تمويل لم تكن لتكون بدون الحيل؛ لكن السيء في الأمر أن تلك الصيغ افتقدت لموافقة مقاصد الشريعة في الغالب؛ بل وناقضتها تماما في حالات عديدة.
2- من زاوية تأثيرها على سمعة المصارف الإسلامية:
أثرت الحيل بشكل كبير على سمعة المصارف الإسلامية، وشككت في مصداقيتها المبنية على قيامها على أحكام الشريعة ! وكانت هذه فرصة لمن يتبنى الفكر الاقتصادي الربوي أن يُصرح أنه لا فرق بين المصرفية الإسلامية والمصرفية الربوية إلا في المسميات والشكليات. بل إن بعضهم قال: الإقدام على صريح الربا خير من التحيل عليه؛ كما فعلت اليهود! وبلاشك أنها كلمة حق أريد بها باطل، فالتحيل عملية كبيرة ولاشك لكن ليست التوبة من الحيل بالوقوع في الربا؛ بل التوبة بتصحيح المعاملات !
3- من زاوية تأثيرها على الجانب الاستثماري والتنافسي:
إن المعاملات المصرفية التي بنيت على الحيل الفقهية صورية وليست حقيقية؛ لذا فهي لا تتعارض مع مبادئ الاستثمار الربوي في كثير من الصيغ التمويلية، وإن ذلك قد شجع كثيراً من المصارف الربوية على أن يفتتح نوافذ للمعاملات الإسلامية، وقد شابت تلك النوافذ الكثير من الملاحظات الشرعية؛ وهذا نتج عنه أمران:
الأمر الأول: أضرّت هذه النوافذ بسمعة المصرفية الإسلامية، لأن الناس لا تُفرّق بين مصرف إسلامي وبين نافذة معاملات إسلامية في بنك ربوي، لذا تحملت المصرفية الإسلامية أمام الناس أخطاء النوافذ الإسلامية التابعة للبنوك الربوية.
الأمر الثاني: إن الحيل الفقهية سمحت بدخول منافسين للمصارف الإسلامية في تخصصها الذي تميّزت به؛ أي تقديم خدمات مصرفية متوافقة مع الشرع، وهذا بلا شك أضرّ بالمصارف الإسلامية من الناحية الاستثمارية، وهذا لم يكن ليتحقق لولا السماح ابتداء ببناء صيغ التعامل على الحيل الفقهية.
ختاما:
إن كل ما سبق يؤكد أن المصارف الإسلامية هي الخاسر الأكبر من السماح ببناء الصيغ التمويلية بمنهج الحيل الفقهية، وأن الحل يكمن في أمرين:
الأمر الأول: اعتماد المصارف الإسلامية لصيغ شرعية نقية ومتوافقة مع المقاصد الشرعية؛ تبعدها عن الشبهات أمام عملائها؛ لأن هذا التميّز في نقاء المعاملات شرعيا هو سرّ نجاح المصارف الإسلامية.
الأمر الثاني: أن تكون المصارف الإسلامية هي من يحارب منهج الحيل الفقهية في بناء صيغ التمويل، وتتبنى نشر الوعي لدى الفقهاء والباحثين بإقامة الدورات والندوات، وكذلك تحذير الناس من المعاملات المشبوهة، أيا كان من يروّج لها؛ وهذا جزء مهم من مسؤولية المصارف الإسلامية؛ لأن منهج الحيل ينتج عنه معاملات وصيغ تُنسب زورا إلى الشرع والفكر المصرفي الإسلامي وهما منها براء.
هذا والله أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.