مدخل لدراسة الاقتصاد الإسلامي (ج 1)
الاقتصاد الإسلامي واقع بين عدم الاعتراف بوجوده عن عمد أو عن جهل من قبل الاقتصاديين غير المسلمين , وبين تقصير الاقتصاديين المسلمين في القيام بواجبهم نحو تقديم حلول عملية مبتكرة للمشاكل الاقتصادية والمالية التي تعصف بالأفراد والهيئات والدول مستمدة من قواعد ومبادئ وأخلاقيات الاقتصاد الإسلامي بشقيه النظرية والتطبيق .
هذه المقالة تهدف إلى بيان حقيقة وجود مذهب اقتصادي إسلامي له فلسفة وأيدلوجية وقواعد ومبادئ تتميز بأبعاد أخلاقية واجتماعية تختلف كل الاختلاف عن الاقتصاديات الوضعية , وبذلك تعتبر حجر الأساس الذي يستمد منه النظام الاقتصادي الإسلامي تطبيقاته على مختلف مجالات النشاط الاقتصادي من إنتاج وتوزيع واستهلاك وادخار واستثمار .
نقاط يجب الاتفاق عليها
قبل البدء في تعريف الاقتصاد الإسلامي , وبيان تميز النظام الاقتصادي الإسلامي عن غيره من الأنظمة الاقتصادية الأخرى هناك عدة نقاط أساسية يجب الاتفاق عليها لأهميتها:
1- الإسلام لا يقتصر على الجانب التعبدي فقط دون الجانب الحياتي أو جانب المعاملات , لأن الإسلام منهاج كامل لتنظيم حياة الناس عبادة ومعاملة لقوله تعالى : ” وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ” النحل 89 , ولقوله تعالى : ” مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ” الأنعام 38 , ولقوله تعالى : ” فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ” النساء 65 .
يؤكد ذلك أن آيات العبادات في القرآن جاءت على نحو مجمل كما في قوله تعالى : ” وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ” البقرة 110 , أما آيات المعاملات جاءت مفصلة كآية الدين وهي أطول آية في القرآن ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ” البقرة 282 .
ليس هذا فحسب فالعبادات التي تمثل علاقة بين الإنسان وخالقة لها آثار بالغة في النفوس تنعكس على التعاملات بين الناس فالصلاة تنهى عن الفواحش والمنكرات , وهو ما يعد حمايه للمجتمع كما جاء في قوله تعالى : ” اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ” العنكبوت 45 .
والزكاة تعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية لأنها تمثل إعادة لتوزيع الثروة والدخل بين الأغنياء وفئات المجتمع الثمانية المنصوص عليها في قوله تعالى : ” إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ” التوبة 60 .
والصوم يهذب النفوس ويجعلها تشعر بمعاناة المساكين من الجوع والعطش لذا من يرخص له بالفطر عليه أن يطعم كل يوم مسكيناً لقوله تعالى : ” وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ” البقرة 184 , وفي نهاية الصوم تكون النفوس قد هيأت لإخراج زكاة الفطر من الطعام عوناً للفقراء والمساكين , وطهرة للصائم مما عسى أن يكون وقع فيه من اللغو والرفث .
والحج وهو من أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله والجهاد في سبيله مرتبط بها الهدي لإطعام البائسين الفقراء كما جاء في قوله تعالى : ” لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ” الحج 28 .
2- عند الحديث عن الاقتصاد الإسلامي وقواعده ومبادئة وأساليب تطبيقه فإن هذا يكون من واقع اجتهادنا البشري في الوقوف على مدلولات الآيات والأحاديث على قدر فهمنا وقدرتنا على الاستنباط من النصوص , ولأن القرآن ليس كله قطعي الدلالة فلابد من الإقرار بحقيقة وجود الاختلاف وهذا الاختلاف حال وجوده يكون مع الاجتهاد البشري وليس مع الإسلام ذاته .
3- بناء على النقطتين السابقتين يتبين أن عدم تقديم نظرية اقتصادية إسلامية ونظام اقتصادي إسلامي رغم ثراء القرآن الكريم والسنة النبوية بالآيات والأحاديث التي تنظم الحياة كلها بما فيها الجانب الاقتصادي سببه العجز في الإدراك والفهم , أو تقصير الاقتصاديين المسلمين في البحث وإعمال العقل والفكر في استنباط المبادئ الاقتصادية وتطبيقاتها من النصوص , وليس سببه العجز في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أو نماذج تطبيقاتها على مر الأزمنة .
4- لتقديم نظرية اقتصادية إسلامية ونظام اقتصادي تطبيقي لهذه النظرية أمامنا طريقان :
أ- استخراج القواعد والمبادئ الاقتصادية من آيات وأحاديث الأحكام وبذلك يتشكل إطار نظري عام يكون جاهزاً للتطبيق عند ظهور المشكلات .
ب- عند ظهور مشكلات اقتصادية تحتاج إلى حلول نعرضها على الآيات والأحاديث فإذا لم تكن متطابقة يكون الاجتهاد وفق القواعد الشرعية من قياس واستحسان ومصالح مرسلة وعرف .
تعريف الاقتصاد الإسلامي
الاقتصاد في اللغة : مأخوذ من القصد وهو استقامة الطريق والعدل ، والقصد في الشيء خلاف الإفراط , وهو ما بين الإسراف والتقتير , أما في الاصطلاح : فهو الأحكام والقواعد الشرعية التي تنظم كسب المال وإنفاقه وأوجه تنميته .
الأحكام الشرعية تمتاز بأن منها الثابت ومنها المتغير , الأحكام الثابتة هي ما كانت بآيات ونصوص قطعية الدلالة من الكتاب أو السنة أو الإجماع , وهي على حال واحدة لا تتغير عنها بتغير الأزمنة والأمكنة واجتهاد الأئمة مثل آية تحليل البيع وتحريم الربا : ” وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ” البقرة 275 , والعديد من الآيات التي تحدد أنصبة الميراث منها قوله تعالى : ” لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ” النساء 11 , وآية تحريم الغش في الكيل والميزان ” وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ” المطففين 1- 3 , وحرمة دم ومال المسلم للحديث المرفوع : ” ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم ” موسوعة الحديث , إلى غيرها من آيات ونصوص وجوب الواجبات ، وتحريم المحرمات ، وهذه الأحكام ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ، كما أنها تتصف بالعموم , لتطبق على جميع الناس من غير مشقة ، فهي حاكمة لتصرفات الناس لا محكومة بهم .
والأحكام المتغيرة هي ما كانت بالأدلة الظنية في سندها أو في دلالتها , وهذه الأحكام قد تتغير وفقاً لاعتبار المصلحة بتغير الزمان والمكان وأحوال الناس , وهي خاضعة لاجتهاد العلماء ولهم أن يختاروا من الأحكام ما يرونه مناسباً لمستجدات الحياة وفق مقاصد الشريعة المعتبرة من حفظ الدين , وحفظ العقل , وحفظ النفس , وحفظ النسل , وحفظ المال .
مقارنة بين المذاهب والأنظمة الاقتصادية
من المعلوم أن تطور الأفكار والآراء عبر العصور هو الذي أدى إلى ظهور الأنظمة الاقتصادية المعاصرة ، وهنا يجب التأكيد على أنه لا يمكن عزل أي نظام اجتماعي أو اقتصادي عن جذوره العقيديـة , بمعنى أنه دائما هناك مذهب عقدي ونظام مبني عليه أو نظرية وتطبيقاتها أو إطار عام وممارسة . والمفروض أن الأنظمة الاقتصادية تهدف إلى تحقيق المصلحة بجلب النفع ودفع الضرر ، والمصلحة قد تكون خاصة أو عامة ، وقد تتعارضان , ومن هنا تختلف الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية بحسب موقفها من هاتين المصلحتين .
1- المذهب الاقتصادي الفردي والأنظمة المتفرعة عنه كالرأسمالية تجعل الفرد هدفها فتهتم بمصلحته أولاً وتقدمه على المجتمع ، ويبرر ذلك بأنه حين يرعى مصلحة الفرد إنما يحقق بطريقة غير مباشرة مصلحة الجماعة ، حيث أن المجتمع ليس إلا مجموعة من الأفراد .
فلسفة النظام الاقتصادي الفردي تقوم على المبدأ الليبرالي في الحرية ، فهم يتصورون الكون آلة حركها الله سبحانه وتعالى ، ثم تركها تدور بدون تدخل ، وبذلك تم تأليه الإنسان على الأرض ، وعلى أساس ذلك نما نظام المنافسة الحرة .
وإذا كان النظام الرأسمالي قد أدى إلى مزايا أهمها : إطلاق الباعث الشخصي والمبادرة الفردية وبواعث الرقي , إلا أنه أدى إلى مساوئ أهمها : اتجاه النشاط الاقتصادي إلى تحقيق أكبر قدر من الربح بغض النظر عن الحاجات العامة الأساسية ، وانتشار البطالة والأزمات الاقتصادية والاحتكار وسوء توزيع الثروة وتفاقم ظاهرة التفاوت والصراع بين الطبقات .
2- المذهب الاقتصادي الجماعي والأنظمة المتفرعة عنه كالاشتراكية ، تجعل المجتمع هدفها فتهتم بمصلحته أولاً وتقدمه على الفرد ، ويبرر ذلك بأنه حين يرعى مصلحة المجتمع إنما يحقق بطريقة غير مباشرة مصلحة الفرد ، إذ الفرد لا يعيش إلا في مجتمع وإن قيمته هي بحسب قيمة مجتمعه ، وإن تقدمه وتفتح ملكاته هي بحسب درجة نمو هذا المجتمع وتطوره .
فلسفة النظام الاقتصادي الجماعي تقوم على أساس أن هيمنة الفرد وملكيته لوسائل الإنتاج تؤدي إلى استغلال الطبقة العاملة وفقرها مما يثير هذه الطبقة ويدفعها للاتحاد حتى تقضي على مؤسسات النظام الرأسمالي ليحل محله النظام الاشتراكي . لقد استغل ” ماركس ” الحقد المشتعل في قلوب العمال وشهّر بكل وسيلة باستغلال رجال الأعمال لهم ، وبدلاً من أن يدعو إلى العدالة شحـذ أسلحة الصـراع الطبقي ودمر الملاك باسم الاشتراكية ثم استغل ذلك التيه والضلال عند المسيحيين في أوروبا ليشهر بالدين كله واعتبره أفيون الشعوب ووسيلة الاستغلال .
وإذا كان النظام الاشتراكي من الناحية النظرية يهدف إلى تحقيق مزايا أهمها : ضمان إشباع الحاجات العامة وتلافي البطالة والأزمات الاقتصادية ، فضلاً عن رعاية مصلحة الأغلبية العاملة ومعالجة سوء توزيع الثروة . إلا أنه أدى إلى مساوئ أهمها : ضعف الحوافز الشخصية والمبادرات الفردية وباعث الرقي الاقتصادي فضلاً عن التعقيدات الإدارية وتحكم البيروقراطية وضياع الحرية الشخصية التي هي جوهر الإنسانية .
3- المذهب الاقتصادي الإسلامي ينفرد بعدم ارتكازه أساساً على الفرد شأن المذهب الرأسمالي ، ولا على المجتمع شأن المذهب الاشتراكي ، وإنما يوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع ، وأساس ذلك هو أن كلاً من المصلحتين الخاصة والعامة يكمل كلاهما الآخر ، وفي حماية أحدهما حماية للآخر .
فلسفة النظام الاقتصادي الإسلامي يخطئ البعض حين يتصور أن المذهب الاقتصادي الإسلامي والنظام الاقتصادي النابع منه مزاج مركب بين الرأسمالية والاشتراكية يأخذ من كل منهما جانباً, وحقيقة الأمر أن الاقتصاد الإسلامي له فلسفة اقتصادية متفردة تقـوم على مبـادئ عقـائديـة تنبني على كون الإنسان مستخلف من الله في الأرض كما جاء في قوله تعالى: ” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ” البقرة 30 , والخلافة في الأرض تكون لعمارتها واستثمار خيراتها التي سخرها الله له لقوله تعالى: ” وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ” هود 61 ، وعليه وهو يمارس دوره في عمارة الأرض أن يأتمر بأوامرالله وينتهي عن نواهيه لقوله تعالى: ” أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ” الأعراف 54 ، وبذلك يتم الجمع بين الروح والمادة في الاقتصاد، فتنشأ خاصية الإحساس بالله تعالى ومراقبته في كل نشاط اقتصادي , وذلك بهدف إقامة مجتمع المتقين وتحقيق الغاية الأسمى وهي العبودية لله لقوله تعالى: ” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ” الذاريات 56 .
تميز النظام الاقتصادي الإسلامي
المبادئ العقائدية والأخلاقية والمفاهيم والأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الإسلامي وتحكم نشاطه الاقتصادي تتطلب من الأفراد عند ممارسة النشاط الاقتصادي التزام الصدق والأمانة وحظر الغش وحسن الوفاء ، وعدم مضارة الغير ، وأن يكون العمل في أساسه مشروعاً , وهذه المبادئ والمفاهيم مختلفة تماماً عن تلك التي تقوم عليها الأنظمة الاقتصادية الأخرى , كما أن الاقتصاد الإسلامي قائم على أيدلوجية الوفرة , ويعتبر أن الندرة سببها سوء استخدام الموارد أو العجز عن اكتشافها لقوله تعالى : ” وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ” الحجر19, بل إن نظرة الإسلام إلى التناقضات الاجتماعية والاقتصادية الموجودة في الحياة نظرة تعاون وتكامل , وهي نظرة تختلف تماماً عن نظرة المذاهب والأنظمة الاقتصادية الأخرى التي تنظر إلى هذه التناقضات نظرة تصارع واقتتال .
يظهر تميز تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي عن غيره من الأنظمة الاقتصادية الأخرى في ثلاث مجالات رئيسية هي: مجال الحرية الاقتصادية وتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي ، ومجال الملكية ، ومجال التوزيع .
أ – في مجال الحرية الاقتصادية وتدخل الدولة
الحرية الاقتصادية للأفراد في الإسلام حرية حقيقية والمنافسة الحرة الشريفة هي أساس الاقتصاد الإسلامي ، فالأفراد والشركات لهم حرية العمل في الإنتاج المباح بدافع المصلحة الخاصة، بشرط ألا يؤدي ذلك إلى الضرر بالآخرين .
ولكن حرية الأفراد في ممارسة النشاط الاقتصادي لا تبيح لهم إنتاج المحرمات كالخمور ، ولا تجيز لهم التعامل بالربا أو الاحتكار، ولا تخولهم حبس المال عن الإنتاج أو صرفه على غير مقتضى العقل ، ولا تسمح لهم بالإضرار بحقوق الآخرين أو المغالاة في تحديد أسعار السلع والخدمات .
وإن كانت حرية الأفراد الاقتصادية ستؤهلهم للقيام بكافة أوجه النشاط الاقتصادي الذي يتطلبه المجتمع وذلك بغرض تحقيق الربح ” كفرض كفاية “، فإن عجزهم عن القيام ببعض أوجه النشاط الاقتصادي لتكاليفه الباهظة كمد خطوط السكك الحديدية وإقامة الصناعات الثقيلة ، أو إعراضهم عن القيام ببعض أوجه النشاط التي لا تحقق لهم أرباح كإنتاج الأسلحة الحربية ، أو انحرافهم بمحاولة استغلال المشاريع الخدمية كالمدارس والمستشفيات فإنه في مثل هذه الأحوال يصير شرعاً ” فرض عين ” على الدولة أن تتدخل وتقوم بأوجه هذا النشاط ليس هذا فحسب بل وتراقب سلامة النشاط الاقتصادي كله بنظام الحسبة .
يتحدد السعر العادل للسلعة أو الخدمة بالتفاعل الحر بين قوى العرض والطلب، ويقصد بالسعر العادل السعر الذي ينال رضا أطراف التبادل في السوق بحيث يغطي تكاليف الانتاج ومعدل ربح عادي، ناتج عن حرية منافسة مشروعة بدون اتفاق أو تواطؤ بين فئات المنتجين أو البائعين أو فئات المشترين .
تتمتع جميع عمليات التبادل الداخلية أو الخارجية بالشفافية المطلقة ، وتعتمد على أسس متينة من الصدق والأمانة وبدون أي غش أو خداع أو تضليل، والالتزام ببيع السلع حسب مواصفاتها الحقيقية وليس المغالاة في الدعاية والإعلان وذلك لمنع الضرر عن المشترين والبائعين .
فالحرية الاقتصادية للأفراد، وتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وانفرادها ببعض أوجه هذا النشاط،يكمل كل منهما الآخر، فكلاهما يقره الإسلام في وقت واحد ، وكلاهما أصل وليس استثناء، وكلاهما مقيد وليس مطلق .
ب – في مجال الملكية
حرية تملك الأفراد لوسائل الإنتاج مكفولة ومصونة بالشرع وهي الأصل وتدخل الدولة هو الاستثناء ، وهو تدخل محدود لضرورات ومصالح شرعية تمنع إلحاق الضرر بباقي أفراد المجتمع أو تصحيح لملكية تم حيازتها أو التصرف فيها بطريق غير شرعي .
فالملكية الخاصة مصونة ولكنها ليست مطلقة ، بل مقيدة من حيث اكتسابها ومن حيث استعمالها ، إذ المالك الحقيقي للمال في الإسلام هو الله تعالى والبشر مستخلفون فيه وفقاً لمراد وتوجيهات المالك الحقيقي . والإسلام يقر الملكية الخاصة والعامة في وقت واحد وهما مكملان لبعضهما ، وكلاهما ليس مطلقاً بل هو مقيد بالصالح العام .
جـ – في مجال التوزيع
إن أساس التوزيع في الاقتصاد الإسلامي هو الحاجة في المقام الأول ثم يأتي العمل والملكية والمخاطرة في المقام الثاني , بحيث يضمن الإسلام ” حد الكفاية ” لكل مواطن ، وذلك كحق له كإنسان يكفله له المجتمع أو الدولة بغض النظر عن جنسيته أو ديانته لقوله تعالى : ” وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ” الإسراء 26 .
ويحرص الإسلام على تحقيق التوازن الاقتصادي في المجتمع والعدالة في توزيع الثروات والدخول كما في قوله تعالى : ” كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ ” الحشر 7 . وهذه قاعدة أساسية في النظرية الاقتصادية الإسلامية ، فالملكية الفردية معترف بها ولكنها محددة بهذه القاعدة , فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية , كما يخالف هدفاً من أهداف النظام الاجتماعي كله , لذلك حرم الإسلام الربا وحظَر الاحتكار وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء .
النهوض بالاقتصاد وتنميته واجب الوقت
منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 والعالم يخيم عليه شبح الركود الاقتصادي فالولايات المتحدة الأمريكية صاحبة أكبر اقتصاد في العالم تجاوز دينها العام في أغسطس 2012 حاجز الـ 16 تريليون دولار وفقاً لما أعلنته وزارة الخزانة الأمريكية , والاتحاد الأوروبي تحول إلى كتله من الديون ودوله على شفا الإفلاس , واليورو مهدد بالزوال , وبقية دول العالم بما فيها الدول العربية والإسلامية تعاني من مشكلات انخفاض معدلات النمو وارتفاع معدلات البطالة وزيادة نسبة التضخم .
هذه الأزمات المالية والاقتصادية العالمية تجعل النهوض بالاقتصاد يتطلب اتباع سياسة الاعتماد على الذات , وعدم الاعتماد على المساعدات الخارجية من دول تعاني هي الأخرى من أزمات وتحتاج إلى مساعدات , لذا يجب البدء في تطبيق أدوات الاقتصاد الإسلامي الداعمة للتنمية الاقتصادية من زكاة ووقف وقرض حسن , ومنع معوقات التنمية الاقتصادية بتحريم الربا والاحتكار ومحاربة الاكتناز , والاستفادة من الموارد المادية والنقدية العاطلة باعتبار أن النهوض بالاقتصاد من أولويات المرحلة وواجب الوقت .
إن ثورة المحتجين حول العالم ضد الرأسمالية ومطالبتهم بتطبيق المعاملات المالية الإسلامية تعتبر دعوة للاقتصاديين الذين يوقنون بوجود اقتصاد إسلامي بشقيه النظرية والتطبيق , ويؤمنون أنه صالح لكل زمان ومكان , أن يوحدوا جهودهم ويوجهوها نحو تقديم حلول عملية مبتكرة لمشاكلنا الاقتصادية مستمدة من الاقتصاد الإسلامي ويعملوا على تطبيقها بدلا من تسول الحلول من النظم الاقتصادية الاشتراكية والرأسمالية التي لم تحقق لنا سوى الأزمات والتأخر.
ألفا بيتا
إقرأ أيضا…
■ قروض البنوك الإسلامية في الميزان.
■ معوقات البنوك الإسلامية: الحلول و المعالجات.
■ التمويل الإسلامي والتقليدي: ميز الفرق.
■ الطريق إلى البنك الإسلامي..