البنوك الإسلامية والبنوك الحلال
عادت هذه الأيام إلى الواجهة، مع سياسة التبشير بالفقر والعوز، فكرة القرض الاستهلاكي، وعادت معها بطبيعة الحال مدى مشروعية هذه القروض من الناحية الدينية، حيث أن هذه القروض، هي قروض بنكية الأصل فيها عقود ربوية؛ لأن البنوك التقليدية، كلها تتعامل وقف معايير بنكية دولية وهي بنوك ربوية.
تعود بهذه المناسبة إلى موضوع البنوك الإسلامية التي أنشئت بالأساس لتجاوز ما تفرضه البنوك التقليدية، من قيم لادينية، ولإيجاد حل للمسلم الذي لا يريد التضحية بدينه من أجل قضاء مصالحه الدنيوية، فكان مشروع البنوك الإسلامية منذ ستينيات القرن الماضي، وانتشرت التجربة في الآفاق، وبرزت أهميتها لدى المستثمر الغربي اللبيرالي مع الأزمة الاقتصادية في الغرب قبل سنوات، بحيث فتحت جميع البنوك العالمية شبابيك للتعامل وفق تجربة البنوك الإسلامية؛ لأنها أربح من البنوك التقليدية.
ولكن بعد تجربة رفعت بعض الحرج عن المسلمين في معاملاتهم المالية، عاد الباحثون في المالية والصيرفة الإسلامية إلى مناقشة الموضوع بشكل أعمق وهو هل هذه البنوك التي اعتمدت العقود الإسلامية كالمضاربة والمرابحة والسلم والمزارعة…إلخ، بنوكا إسلامية أم هي بنوك حلال؟
لا أذكر الآن من صاحب هذا المصطلح “البنوك الحلال”، الذي أطلق في منتصف الثمانينيات، عندما ثار الجدل حول التجربة الإسلامية في الصيرفة ومدى مطابقتها لأحكام الفقه الإسلامي، وملاءمتها لمنهجية الفكر الإسلامي ونظمه. وأغلب الظن أن الذي أطلق هذا المصطلح هو الأستاذ عبد الحميد الغزالي، الاقتصادي المعروف.
وذلك للتعبير على أن ما أطلق عليه إسم البنوك الإسلامية، لا يعبر حقيقة عن الغاية الإسلامية في حركة المال والبنوك كما هي عليه الآن؛ لأن ما تتعامل به البنوك الإسلامية او الشبابيك الإسلامية في البنوك التقليدية، لم يغير من جوهر المعاملات البنكية شيئا إلا أشكال العقود، أي أن العقود التي تتعامل بها البنوك التقليدية، هي عقود ربوية فاستبدلت هذه العقود الربوية بعقود أخرى إسلامية، وهي عقود المضاربة والمرابحة والسلم…إلخ، اما جوهر نظام المؤسسة البنكية كمؤسسة مالية لم يمس، وهذا هو مفهوم البنوك الحلال، أي أنها بنوك لم تخرج عن طبيعة البنك في منظومة إقتصادية رأسمالية ليبيرالية، ولكنها حلال؛ لأن عقودها إسلامية. أما البنوك الإسلامية كما تهدف إليها منظومة الفكر الإسلامي، فلم تتحقق؛ لأنها لم تخرج عن جوهر المنظومة البنكية التي نشأت في محاضن أخرى لا علاقة لها بالفكر الإسلامي ومنظومته المغايرة للثقافات الأخرى القديمة والحديثة.
ولفهم هذه الإشكالية في الفرق بين البنوك الحلال والبنوك الإسلامية، يحسن بنا العودة إلى وظيفة النقد والمال في حركة المجتمع والإقتصاد عموما.
لقد كان الاقتصاد في أشكاله البدائية مقايضة، أي استبدال سلع بسلع، حيث أن الناس مفترض فيهم أنهم كلهم منتجون لسلع متنوعة، فلاحية وحرفية وصناعية، ورغم قدم هذه الصيغة في التجارة إلا أنها لا تزال أقوى صيغ التعامل التجاري وأنفعها للمجتمعات، ولما تعقدت الحياة شيئا فشيئا، ولتمكين الناس من ممارسة حياتهم، وضعت النقود كمادة وسيطة بين سلعتين، بحيث لم يعد الإنسان مضطرا للمقايضة، وإنما يمكنه بيع ما عنده بالنقود، ليشتري بتلك النقود ما يشاء من السلع، فكانت النقود عبارة عن خدمة اجتماعية تساهم في تحرير الإنسان مما فرض عليه من حاجة قد لا يكون راغبا فيها.
وعندما نضع النقد –المال- في سياقه الصحيح نجد أن وظيفته ذات وجهين، وجه من حيث هو وسيط بين منتوجين، أي ان له قيمة ذاتية لا تصلح لأكثر من كونه بدل لشيء ذو قيمة ذاتية تنفع بذاتها، فلو افترضنا ان إنسانا يملك مالا وفيرا في مكان لا يجد فيه ما يشتري به، فإن المال يصبح لا قيمة له؛ لأنه لا يؤكل ولا يلبس، على خلاف لو كان المرء يملك دقيقا او ماء أو حتى قطعة قماش، فإنه يشعر أنه يملك شيئا يأكله او يشربه أو يلبسه، ووجه آخر للنقد -المال- هو أنه يقدم خدمة إجتماعية، تسهيلا للمعاملات التجارية، فيبيع الإنسان ما يشاء ويقبض مقابله مالا ليشتري ما به يريد، او يعير هذا المال –قرضا حسنا- لشخص آخر ليحقق نفس الغاية. ومن ثم كانت وظيفة المال هي القيام بهذا الواجب الاجتماعي، لا أكثر ولا أقل، فلا يليق كنزه حتى لا يعطل عن أداء مهمته كوسيط بين منتوجين، او كبدل لمنتوج، أو كقرض حسن؛ لأن قيمته الذاتية ثابتة، بحيث تثمن به المنتوجات ولا يثمن هو بها.[box type=”shadow” align=”alignleft” class=”” width=””]
■ العوامل التي ساعدت على نجاح تجربة البنوك الإسلامية.
■ المصارف الإسلامية.. الفرق بينها وبين التقليدية.. خدماتها.. مفهومها.
■ مشكلة التمويل لدى المصارف الإسلامية.
■ ما هو الفرق بين البنوك الإسلامية و البنوك التقليدية؟ [/box]
ولكن جشع الإنسان غبر التاريخ حول هذا المال عن وظيفته الرئيسية وأحدث له وظائف أخرى ليست من مهامه، كما حول الكثير من الأمور، وعلى رأسها المنظومة البنكية التقليدية، عن مسارها الصحيح، خدمة لذاته وملذاته وهواه. فكان الكنز، أي كنز المال في جهة واحدة ليصبح الذي يملكه هو صاحب القرار المتحكم في حركة السوق؛ لأن كنز المال في يد واحدة أو أيد معدودة في مجتمع ما، يعني أن حركة البيع والشراء تتوقف إلا بإذن من كانز المال؛ لأن الذي يريد ان يبيع لا يجد مالا والذي يريد ان يشتري لا يجد مالا، بحكم أن الناس ألفوا التعامل بالمال، لا يرون حلولا سهلة وسريعة إلا بوفرة المال والسيولة النقدية، بينما لو أنهم عادوا إلى المقايضة، لقلصوا الكثير من الحاجة إلى المال، ولخففوا من حدة تأثير رب المال على من يحتاجه.
وبحكم ان هذا الواقع لم يواجه بفكرة أقوى من التحكم المالي، وبحكم أن العودة إلى ما قبل النقد وعهد المقايضة لم تعد ممكنة على المستوى الجماهيري العام، استغلت حاجة الناس إلى المال، وحفاظا على حركة السوق حتى لا تتعطل، كانت فكرة القرض الذي كان خدمة اجتماعية محضة، إلى قرض بمقابل، وهذا المقابل قيمة من جنس النقد نفسه، أي يقترض المحتاج مائة دينار فيصبح مدينا لدائن هو رب المال، ثم يعيد المال لصاحبه مائة وخمس دنانير مثلا، أي بإضافة خمس دنانير على قيمة القرض، رغم ان النقد كما ذكرنا ذلك من قبل أن له قيمة ثابتة وغير قابل للتثمين، فتحول إلى بضاعة تثمن مثل سائر البضائع، خاضع للعرض والطلب مثل السلع، وأصبح القرض عبارة عن سد لحاجة الناس، ولكن بمقابل، أي أن سعر الفائدة يدفع في مقابل حاجة اجتماعية، ليست قيمة مضافة للمجتمع وإنما هي قيمة مالية في مقابل حاجة لأفراد المجتمع ومؤسسات، والحاجة في الأصل “ضرورة” تسدها الخدمة الاجتماعية العمومية وليس إثقال كاهل الأفراد والمؤسسات بالمقابل المالي، ولذلك كان الربا محرما؛ لأنه دفع مقابل مالي في مقابل حاجة تعالج بالقرض الحسن وكفى، كخدمة عمومية.
مع استشراء النظام البنكي التقليدي ومعاناة الناس في التعامل مع البنوك الربوية، جاءت فكرة البنوك الإسلامية التي أحدثت فكرة العقود الإسلامية، والغاية كانت الخروج من المأزق الربوي الذي فرضته المنظومة المالية الدولية، في إطار أسلمة الحياة العامة، ولكن بحكم أن السوق تحكمها نظم غير إسلامية، تلقف أرباب المال والسوق في العالم الإسلامي فكرة البنوك الإسلامية، فتحولت البنوك من فكرة البنوك الإسلامية التي تعمل على تنظيم حركة المال في إطار منظومة إسلامية متكاملة، تحولت الفكرة إلى بنوك سميت بالإسلامية، ولكن جوهرها هو تحقيق غايات لبيرالية وفق روح البنك الربوي، ولكن بعقود إسلامية.. فبدلا من أن يكون العقد ربويا قرض بمقابل مالي 5 أو 6 بالمائة، يستبدل بعقد مرابحة، بمقابل 20 أو 30 بالمائة، وتأمينات على التمويل…إلخ، وفي النهاية يشترك العقدان في أن المخاطرة صفر بالمائة.
صحيح أن العقدين يختلفان في الشكل، ولكن المضمون واحد وهو خلو مثل هذه المعاملات المالية في شكليها من البعد الاجتماعي، في حين أن القضية سواء سميناها تمويلا أو أي مسمى آخر، وبهذا العقد أو ذاك هي قرض والقرض لا يصلح للاعتبارات آنفة الذكر إلا خدمة عمومية بلا مقابل.
وأنا هنا لا أبحث الجانب الفقهي، وإنما أشير إلى أن المعاملات البنكية مهما عددنا لها الأسماء فهي لم تخرج عن المنظومة التي وضعها لها عالم الغرب في منظومته البنكية، وهي خلوها من الخدمة الاجتماعية في أمور ذات طابع خدمات عمومية لا يليق تحويلها إلى صناعة مالية بالشكل الذي يجعل للنقد قيما متباينة بناء على تغير الزمان.
الشروق.